وهي معادلة تبدو مقلوبة، ففي العادة فان واشنطن تبدو ثابتة بينما يرتبك الآخرون، والسبب معروف لأن واشنطن قوة دولية من المفترض أنها تصنع خططها وتتوسل بوسائلها لبلوغ أهدافها. غير أن هذا لم يكن شأن واشنطن حيال السودان في هذه الظروف وهو يقبل على استفتاء مصيري لجنوبه إنفاذاً لاتفاق سلام رعته واشنطن حتى تكلل بالنجاح في 9يناير 2005 بكينيا. ولعل سبب ارتباك واشنطن والذي وضح جلياً في تضارب تصريحات المسئولين الأمريكيين ما بين تهديدهم للخرطوم تهديدات استنفذت ولم تعد تثير الخوف من شاكلة العقوبات الاقتصادية وحتى المواجهة العسكرية، وما بين تلويح البعض بحوافز هي أيضاً لم تعد تروق للحكومة السودانية كونها لا تقدم ولا تؤخر ولا نفع منها مثل فك الحظر الاقتصادي والوعد بالنظر في رفع اسم السودان من لائحة الدول الداعمة للإرهاب . وقد رأينا كيف أن السيناتور الديمقراطي جون كيري قد أتي بهذا التناقض أبان زيارته الأخيرة للسودان حين لوح بالإجراءات ثم لوح بالحوافز ثم لم يجد مناصاً من القول أن بلاده يمكن أن تقبل تأجيلاً فنياً للاستفتاء !! وقبله كانت مندوبة واشنطن لدي مجلس الأمن سوزان رايس تلمح هي أيضاً إلى احتمال تأجيل الاستفتاء . يعود سبب هذا الارتباك الأمريكي إلى أن واشنطن منذ البداية لم تكن تملك رؤية واضحة ومحددة حيال وحدة أو انفصال الجنوب صحيح أنها ظلت تقف داعمة للجنوب في مواجهة الشمال وصحيح أيضاً ربما تساير رغبات الحركة الشعبية أو إسرائيل لفصل الجنوب على اعتبار أن لها مصالح في ذلك. ولكن لم يتضح حتى الآن أن واشنطن قد استقرت تماماً حيال هذا الأمر بحيث لم يعد لها من خيار آخر وتكف مصادر مطلعة في واشنطن إلى أن إدارة أوباما تساورها مخاوف جراء ما ظهر من نزعات فساد مالي لقادة الحركة وإهدارهم للمال بما قد يفضي إلى دولة فاشلة. وكلنا يعلم أن نائب الرئيس الأمريكي جوبا يدن سبق وأن حذر من قيام دولة جنوبية فاشلة حين قال قبل أشهر أن آخر ما يريده هو دولة إضافية فاشلة. كما أن واشنطن تخشي كل الخشية أن يندلع العنف في الجنوب لاحقاً وعقب قيام الدولة ويصبح الجنوب بؤرة لعنف ونازحين ولاجئين في دول الجوار. هذه المخاوف لها أساسها دون شك وهو ما جعل واشنطن تراوح مكانها حيال الاستفتاء وهو أيضاً ما جعل الخرطوم تبدو هادئة وأكثر ثبات فهي أكدت على قيام الاستفتاء في موعده ولا تزال تؤكد ولكن واشنطن تدرك أن الخرطوم تعرف أن هناك عقبات حقيقية – على الأرض – حيال موعد الاستفتاء ومن ثم يزداد الارتباك الأمريكي ويزداد الثبات في الخرطوم لأن المعركة بالنسبة للخرطوم تتطلب الهدوء والانتظار!