لم يعد سراً أن هنالك علاقة راسخة وقوية لإسرائيل بما حدث ويحدث في جنوب السودان لقد استطاعت وكالة مخابراتهم عبر قدراتها المادية التي تسخر عبرها دولاً غربية غنية وقوية في مقدمتها أمريكا أن تجعل الجنوب امتداداً إسرائيلياً خطيراً، يهدد مصالح أبناء الجنوب في دولتهم ويصارعهم من أجل استغلال خبراتها المادية. وعلاقة اليهود بالسودان قديمة فهم يعتبرونه جسراً للتوغل العربي والإسلامي في أفريقيا، ويساعد بموقعه في ربط الأفارقة بالعرب وهم أقرب للتوصل بحكم الجيرة وانتشار الإسلام في القارة الأفريقية. وإذا كانت دولة الاستعمار البريطاني هي من أعطى وعد بلفور بقيام وطن لليهود في فلسطين فإن جنوب السودان يظل واحداً من الأراضي التي يحلم بها اليهود لزيادة مواردهم الاقتصادية ويطوقون بها الوجود العربي في إطار إستراتيجية لتفكيك الدول العربية المحورية وإثارة النزاعات والحروب الداخلية . لقد كان واضحاً منذ بداية التمرد وحتى قبله بسن قانون المناطق الحرة أن تلك القوانين التي هدفت لمنع تداخل أبناء السودان في مناطق الجنوب ودار زغاوة والانقسنا وجبال النوبة كان الهدف منها هو تخريب العلاقة السلمية والتداخل الذي بدأ بعمق الصلات الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد. وكل ما مرت به حركات التمرد من الاستفادة من مناهج الكراهية والأحقاد التي بذرت من مناهج التدريس في مدارس ما قبل الاستقلال حتى أن كتاباً للتربية والتعليم في مدارس التبشير قبل الاستقلال كان غلافه يرسم عليه جمل يركبه رجل عربي ويسير خلفه جنوبي وخلفه عربي آخر يحمل السوط ليضرب به. هكذا كانت مناهج التدمير بين الشمال والجنوب تبدأ مبكراً بمؤامرات ضخمة لقطع الصلات بالقوانين وبمناهج تعليم تستخدم لبث الكراهية وبذر الشكوك ليأتي الحصاد بعد ذلك كله بنصف قرن. والتغلغل الإسرائيلي في الجنوب نظنه وهماً بدأ متأخراً مع حركة الأنانيا ون وهذا خطأ تاريخي، فلا بد أن تعرف بأن وعد بلفور في 1917م كان وعداً بريطانياً وأنها كانت تحكم السودان ولذلك سعت بكل ما تملك لزراعة الكراهية هنا لضرب أسفين في العلاقة بين العرب والأفارقة ولمصلحة إسرائيل والغرب وقانون المناطق المقفولة هو ضمان لإنجاح مخططات الحقد والكراهية وبذر الشكوك، ولكن لم ندرس ذلك بالوعي الكافي المسلح بالخبرة وبالمعطيات التاريخية ومآلات المستقبل الذي كانوا له يعملون بمثل تلك القوانين والمواقف. ولأن تاريخنا الوطني لتلك الفترة كتبته ذات الأقلام التي تأمل تحقيق مصالح لا وطنية، وهو تاريخ يلبي رغبات الآخرين في استمرار مهددات الدولة السودانية التي اعتمدتها الإدارة البريطانية بإعطاء الإدارة الأهلية للقبائل القيادية المحلية لتفكيك عناصر التماسك الوطني وإضعافه وبناء قوى سياسية وطنية تقع تحت الوصايا الغربية دون السير في التحرر الوطني الكامل من سياسات الاستعمار وأدواته فلم تتغير الدولة كثيراً بعد الاستقلال حيث ظلت العوامل التي تأخذ البلد للوراء محروسة وللآن لم نستطع فهم تراجعنا الوطني وعدم نهوضنا الاقتصادي وصراعاتنا القبلية وأزماتنا المحلية. الشرفة التي أردنا بها الاستقلال كانت استغلالاً للبلاد بمواردها وقواها البشرية وتمكين مجموعات قيادية تظل جاثمة على صدر البلاد بعد أن مكنت لها بالأراضي والممتلكات والمساءلة تطول وكلها تهدف لشدنا للوراء وتأخير انطلاقتنا ونهضتنا وبئس القادة أولئك . الوجود الماسوني في السودان والمحافل المتكاثرة التي ربما لم تترك منفذاً واحداً للانطلاق إلا عطلته ولا موطن قوة إلا بددته، وحتى الوجود اليهودي السوداني المتغلغل داخل أنسجة المجتمع والمندمج شكلاً ومظهراً يجعلنا نفسر الأمور وفقاً للصراع الأزلي، والذي تديره هنا عبر الأيدي اليهودية الأصلية بسودانيتها وبين صناعة الأزمات ووضع متاريس في سبيل تحقيق الاندماج الوطني، وإدخال الصراع حول دور الدين كإحدى آليات تحطيم المشروع الوطني والإسلامي بالصراع معه ومحاولة طمسه وإخراجه عن دائرة التأثير وإذا كان الأمر يمثل بالنسبة لنا غير العقيدة تراثاً وطنياً وعرفاً شعبياً متغلغلاً في داخل السودان يصبح أمر مواجهة أي صراع ضد دور الدين، صراع هوية ووجود والدعوة العلمانية التي تغلغلت في بلادنا حتى دنا أمر قبولها من طوائف العاملين في حقل الدعوة الإسلامية وحركاته الجهادية مثلما آل الأمر بالنسبة لأبناء الإمام المهدي الذي انحرفوا عن منهجهم وظهروا بمواقف سياسية تتعاطف والمخدوعين باسم المهدية حيث يستغل تاريخنا ويشوه بأولئك الحالمين. والتغلغل اليهودي في السودان نواياه واضحة فكل شركات التنمية تحارب أن تدخل البلاد ناهيك في هذا العهد الذي صنفوه معادياً لهم بل حتى في عهد أنظمة عملية 100% لهم كنظام نميري الذي ارتضى الارتماء في أحضان أمريكا وإسرائيل بعد أن عبثوا كثيراً به وأحبطوه ولذلك ارتضى أن يلتقي شارون في نيروبي ثم دعاه هنا في الجريف غرب بوقف الصراع في الجنوب حيث كانت تستطيع ذلك ولم تقدم دعماً كافياً لنميري لاجتثاث التمرد فقد أدى دوره ومطلوب في الأصل استمرار الصراع وصولاً لهدف تفكيك السودان لدويلات فقد استطاعوا عبر (المعونة الأمريكية) أن يخترقوا البلاد وهي كما معروف إحدى أدوات الصراع بأيدي المخابرات الأمريكية ومعروف حجم التعاون الأمريكي الإسرائيلي، والعملاء الإسرائيليون في السودان لا يحصون عدداً بعضهم دوره إثارة القبلية فقد ظلت ديمقراطية السودان وانتخاباته موسماً لحشد الصراعات الطائفية والقبلية وتقطيع أواصر المجتمع وبناء نفوذهم على أنقاض الخلافات والصراعات وصولاً للصراعات القبلية الدامية في المناطق الأقل وعياً (دارفور نموذجاً) . وحتى السلام الاجتماعي ولعل السودان هو الدولة الأكثر التي ترى كل قبيلة أنها لا تعترف بالأخرى ليكون ذلك مدخلاً لصراع عدم قبول الآخر وكأن الأمر مرصوداً ليفعل به ما يريد. والآن بعد أن صرح قائد الموساد أنهم عملوا عملاً عظيماً بإسهامهم في تأسيس خلاياهم في الجنوب ودارفور وأنهم يستطيعون العمل حتى دون تدخلهم، لقد سقوا أولئك كؤوساً من العمالة التي تحولت عندهم لعقيدة مستثمرين ما زرعوه في سنوات طويلة كنا فيها معصوبي الأعين. الوجود الإسرائيلي في الجنوب صار هو الأصل فالجنوب الآن صار إقليماً لإسرائيل تفعل فيه ما تريد ومتى شاءت لأن كرم العلماء والبيئة الجاهزة هنالك وفرت لهم تحقيق عملاً يصفه رئيس المخابرات الإسرائيلية بأنه عظيم، وأين كنا نحن وهم ينجزون هذا العمل العظيم ولماذا لم نعلم به أصلاً؟ ولماذا لم تحذر منه دوائرنا الأمنية أم الأمر أخطر مما نتصور والمؤامرة أكبر مما نستوعب؟! نقلاً عن صحيفة الرائد 2/12/2010م