تتيح التجارب العديدة للسودانيين في مضمار الحراك السياسي وتجاربه المتنوعة عبر العقود التالية للاستقلال ، إثراء الحلم مجددا باصلاحات شاملة تمس الخيارات الاساسية المتعلقة بكيفية حكم البلاد والتداول السلمي للسلطة وارساء تجربة تحول ديمقراطي حقيقي راشدة. ووسط حالة القلق السياسي التي يتسم بها المشهد السياسي الراهن بالسودان، المشحون بتوترات البحث عن معالجات لعدة أزمات سياسية معقدة منها قضيتا دارفور والجنوب، تجد النخب السودانية بين موقعي الحكم والمعارضة نفسها مطالبة بالأمرين معا: القول والفعل. لابد من مشاركات صادقة في تحمل أعباء المرحلة السياسية الراهنة في السودان، وهي مرحلة لا نغالي إذا وصفناها بأنها تعد احدى اكثر مراحل التجربة السياسية خطورة في تاريخ السودان الحديث. إنه بدلا من انتظار مبادرات الآخر باختلاف موقعه من معادلة السياسة، فمن الخير أن يسارع المثقف السوداني لقول كلمته وإتباعها بالفعل. وبقراءات سريعة لتحولات ومتغيرات وأحداث المشهد السياسي، تظهر العديد من النقاط الجديرة بالتأمل. وفي مقدمة هذه النقاط، تنامي حالة التساؤل القلق عن أسباب الأزمات السياسية تمهيدا لإطلاق الفعل المبادر برسم طريق الحل الشامل لكل أزمة منها. لقد عايشت الساحة السياسية في السودان على مدى عقود ما بعد الاستقلال تفاصيل التجارب السياسية المتعددة التي تعاقبت عبرها حكومات كثيرة اضطلعت بمسؤولية الحكم. ومن المؤكد أن استخلاص خلاصات الدروس والعبر التي أنتجتها التحولات المتعاقبة في السودان يحفل بالعديد من اسس التغيير نحو الأفضل. والتوصل للدروس والعبر السياسية في تاريخ ما بعد الاستقلال، يتأتى عبر وسيلة تعميق الحوار الوطني المنفتح على كل التيارات والمدارس الفكرية والسياسية المؤثرة في مسار الأحداث بالبلاد. إنه من الواضح بأن شعورا عميقا بالحزن يعتري العديد من الأشخاص في رصدهم لما يتفاعل الآن من أحداث سياسية في السودان، ترقبا لحدث ضخم لاقترب موعده كثيرا، ألا وهو حدث (تقرير مصير جنو ب السودان). ولقد اتجهت أنظار المهمومين بالقضايا الوطنية في سودان المليون ميل مربع، على مدى الأعوام الأخيرة صوب الحراك السياسي الراهن من أجل قراءة سطور التحولات وأيضا ما بين سطور التحولات. وبين التأمل واستحضار الدروس العديدة الظاهرة التي صنعتها سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وهلم جرا، وصولا إلى العقد الأول من القرن الحالي، تتكثف مشاعر القلق على المآلات المرتقبة بالسودان. إن من بين أبرز مصادر القلق الحالية التيقن بأن هناك متغيرات كثيرة قد مست قيم التعايش والتسامح على جغرافيا ارض السودان، الذي يعرفه أهله أولا وكذلك الأشقاء والأصدقاء، بتميزه بخصال يحسده عليها الكثيرون، على مستوى طيبة أفراد مجتمعه وحرصهم على إعلاء القيم السمحة الكريمة، مبتعدين عن النزوع للاقتتال مع الأخ ومع الجار ومع الصديق. لقد تفجرت على ارض السودان نزاعات مسلحة عبر الأعوام الأخيرة منها نزاع الجنوب الممتد منذ أغسطس 1955 حتى يناير 2005، ثم نزاع دارفور والذي سبقه توجه فصائل من أبناء شرق السودان نحو الخيار المرفوض وهو خيار حمل السلاح للمطالبة بالحقوق. وقد أنجز السودان بشكل عام الحلول المعروفة لقضايا الجنوب ودارفور والشرق من خلال اتفاقيات معروفة، مع الاشارة - الآن - إلى أن أزمة دارفور تشهد اقتراب الوساطة القطرية بالشراكة مع «الجامعة العربية» و«الاتحاد الإفريقي» والأمم المتحدة» من إنجاز اتفاق شامل للسلام تتسارع لحظات ميلاده السعيد، ويقترب فجره يوما إثر آخر. والمؤمل حين ننظر صوب ما جرى من أحداث عبر مساحات كبيرة من السودان، تم خلالها تكريس (مبدأ حمل السلاح)، كوسيلة وحيدة للتخاطب مع الحكومات المركزية، أن يعتبر الجميع وهم يشاهدون الحصاد الراهن، وذلك لا يعني فقدان الأمل في استدراك ما قد فات. إن تحولات السياسة تتسارع دائما،ووسط المشهد الرئيسي للأحداث ينتظر العامة ان تتقدم النخب، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ووسطا، لقول كلمتها حول ما قد كان وما سيكون.. فلا سبيل لاستعادة واقع الأصالة والإشراق ونبل الخصال والابتعاد عن العنف الذي يجر عنفا مضادا، إلا بالتراضي على منطلقات تسيير العمل الوطني السياسي. إن أصواتا عديدة قد تعالت عبر الأعوام الأخيرة منادية باعتماد حوار الكلمة لا (حوار الرصاص) منطلقا أساسيا لارساء المعالجات والانجاز الحلول ولابتدار رؤى النهضة المقبلة التي تعتمد على الانسان وسيلة للتنمية وغاية لها في الوقت ذاته. ونحن هنا نضم صوتنا - بتواضع - إلى تلك الأصوات. إن مثل هذا الحوار الصافي والذي يبدأ اولا مع النفس قبل الانتقال إلى الآخرين، هو المدخل الطبيعي لاجتثاث جذور «الفتن النائمة» في مشهد تحولات السياسة السودانية.ونقول بأن السودان أحوج ما يكون الآن إلى جهد كل أبنائه.. والمطلوب أن لا تغلق الحكومة أبواب الحوار الوطني المسؤول والشفاف والمتسم بالمصداقية والمكفولة له كل أسس الحرية، احتراما للرأي والرأي الآخر. ومن جانبها فإن الأحزاب والمجموعات والحركات المعارضة، سواء من ظلت تدعو ل «تغيير مسلح» في اقليم واحد، أو على مستوى السودان كله، أو تلك التي تتبنى الدعوة للحلول عبر الكلمة الحرة الصادقة والمسؤولة وحدها دون لجوء لخيارات العنف،كل هذه القوى المعارضة ينتظرها الآن نداء الوطنية الحقة.. فلا مجال لصم الآذان عن سماع كلمة الحق، إذ انه وسط حالة التوتر السياسي الراهنة فلا مجال لتعميق جِراح الوطن.. فالمطلوب وبقوة هو إعلاء قيم التحاور والتشاور والإيثار في مشهد سياسي صادق للمحبة وللإخاء من أجل أن يجتاز السودان ما يجابهه في التوقيت الراهن من تحديات جسام لا تخفى على أحد. المصدر: الوطن 6/12/2010