باتت حقول العمل السياسي في العصر الراهن تتيح فرصا واسعة للاستفادة من المعارف والعلوم المتنوعة، لرسم طريق الخلاص وتحديد الآفاق السياسية الجديدة لإثراء التجارب بخلاصات الفكر الإنساني الرحيب. والحديث عن تأثير الفكر والثقافة على معطيات السياسة، يشكل موضوعا خصبا، يحتوي على ثمرات مهمة. فدون رؤى السياسي الحصيف الذي يدرك جيدا موضع أقدامه، بذات القدر الذي يدرك فيه رحابة الآفاق السياسية المفتوحة على مد البصر والتفكير، دون ذلك كله، يصعب الحلم بالتغيير. وهكذا كان الحال عند اللحظات التاريخية العميقة لتحولات السياسة على مر العصور. وليست تجربة ثورة 23 يوليو 1952 في مصر ببعيدة عن عصفنا الذهني هذا. التقديم لعلاقة الفكر بالسياسة هنا، قد يكون مهما، عند المحاولة التحليلية حول مسارت جديدة ستؤول إليها قريبا جدا أوضاع السودان. ونقول «قريبا جدا»، بحكم أن موعد إجراء استفتاء تقرير المصير في حنوب السودان للاختيار ما بين الوحدة او الانفصال، وهو موعد 9 يناير 2011 يقترب منا سريعا. لقد تكثفت إشارات عديدة، خصوصا الإشارات الصادرة عن قياديين بحزب الحركة الشعبية في جنو ب السودان، وأغلبها ترى أنه لم يعد هناك بد من اللجوء إلى آخر العلاج، وهو «الكي بالنار»، متمثلا في الانفصال.. «ما دامت الوحدة السودانية لم تعد جاذبة»، من منظور تلك القيادات ب «الحركة الشعبية». وهو ما يثير التساؤل المباشر والجوهري: ماذا أعد (السودان الشمالي) من خطط وأطروحات فكرية وسياسات لتجنب المآلات السيئة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، المترتبة على نشوء الدولة الجديدة المرتقبة، والتي قد تنشأ رغم أنف كل المؤمنين بوحدة السودان، والداعين إلى أطروحات الحفاظ على الوحدة في التنوع الديني والإثني والثقافي؟ إن استعراض تفاصيل الحراك السياسي الراهن على مشهد السياسة السودانية، يكشف أن الكثير من الغموض لايزال مخيما على الاستعدادات الداخلية في السودان لتقبل ما سيأتي، كنتيجة ماثلة في الأفق السياسي، وهي نتيجة ربما لم يعد ممكنا الآن تفادي مواجهتها والقبول بها. إن معظم أطروحات القوى السياسية السودانية، ما بين موقعي الحكم والمعارضة، تؤكد أنه لا مجال لرفض خيار أبناء الجنوب، مهما تكن طبيعته، ولكن بشرط أن يتم الوصول لهذا الخيار عبر عملية استفتاء شرعي ونزيه وحر، بشهادة الداخل والخارج معا. ووسط إرهاصات الاحتمال الراجح بانفصال الجنوب، تبقى إشارة اساسية مهمة وهي ضرورة الاستفادة من العمقين العربي والإفريقي معا للسودان. فالسودان بانتمائه للعرب والأفارقة هو مع دول عديدة عربية - إفريقية، مثل مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا والصومال، يعد رقما صعبا في معادلة تمتين التعاون والتوصل للشراكة الممكنة بين العرب والأفارقة في توقيت عالمي تشوبه هواجس السقوط بين فكي الأزمة المالية العالمية الطاحنة. إنه من المهم تأكيد أن فضاءات الحوار والتعاون والشراكة بين العرب والأفارقة تملك الحل السحري للتأزم الراهن في السودان. فإذا جاء خيار الجنوب السوداني مرجحا لكفة الانفصال فيجب الاهتمام فورا بالتنسيق السياسي الوطيد مع الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي لإيجاد المعادلات الحاضرة والمستقبلية التي تمنع اندلاع حرب جديدة على أرض السودان، لا قدر الله. إذا فالتعاون العربي الافريقي المكثف هو صمام الأمان الحقيقي لحماية السودان من الانحدار إلى أية مآلات سياسية أو أمنية سيئة محتملة في ظل تفاعلات الأحداث الحالية، خصوصا مع ظهور وتبلور دور أميركي كبير وضاغط في الشأن السوداني، وأيضا في شأن جنوب السودان الذي لا تريد واشنطن في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما تركه في حاله ليختار خياره الحر لحاضره ومستقبله. والأمل كله حاليا، هو أن تصدق نوايا الفرقاء السياسيين، شمالا وجنوبا لتجنيب أهل السودان الخيارات المرة والصعبة، الكامنة في مشهد احتمال تفتيت وحدة هذا البلد العربي المسلم والإفريقي ذي المساحة الشاسعة التي طالما تغنى بها شعراء السودان بالفصحى والعامية، ومن ذلك قول الشاعر محجوب شريف عبر منعطف تاريخي سابق: «وطن حدادي مدادي ما بنبنيه فرادي ولا بالضجة في الرادي ولا الخطب الحماسية.. حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي وطن شامخ وطن عاتي وطن خير ديمقراطي». المصدر: الوطن القطرية 17/12/2010