سواء خرجت القوى السودانية المعارضة بما في ذلك الحركة الشعبية التي استمرأت لعب الدورين، دور المعارضة والحكومة في آن واحد، سواء خرجت في تظاهرتها التي ظلت تردد أنها تظاهرة سلمية أو لم تخرج – لسبب أو لآخر – فإن البيان الذي خرج عن هذه القوى وتلقت (سودان سفاري) نسخة منه والذي بدأ وكأنه فتوى (سياسية قانونية) ارادت من وراءه هذه القوى أن تبرر لنفسها ما تريده، هذا البيان، للمفارقة وسخريات القدر، ساق ذات الحجج والمبررات التي ظلت تسوقها السلطات الحكومية المختصة بشأن قضية التظاهر وضرورات أخذ الاذن والتقديرات المتعلقة بالأمن والسلامة العامة. تقول فقرة في الجزء الأعلى للبيان (أن تنظيم التجمعات أو المسيرات لا يقتضي سوى الإلتزام بالحفاظ على الأمن وسلامة الآخرين وممتلكاتهم، وليست هناك ضرورة قانونية لأخذ أي اذن مسبق من أي من السلطات للخروج في أي تجمع أو مسيرة سلمية) ثم يعود ذات البيان في الجزء الأدنى منه ليقول بالحرف ((ليس هناك ما يحول دون تجمع أو تجمهر المواطنين ما لم تقرر السلطات وبأسباب كافية أن هناك ما يجوز أن يخل بالسلام أو الأمن العام إستناداً الى المادة (127) من قانون الإجراءات الجنائية سن1991ة، والمعدلة للع2002ام)، فالبيان غالط نفسه بنفسه، وقد لف ودار طويلاً للحديث عن حرية التظاهر والتجمع لينتهي به المطاف للاشارة الى المادة 127 من قانون الإجراءات الجنائية، بعبارة أخرى فإن البيان أعاد التأكيد على ما تقوله السلطات الحكومية من أن حق التظاهر والتجمع مرتبط بتقديرات السلطة الحكومية المختصة بشأن مراعاة السلام والأمن وفقاً لنص المادة 127، أي أن الحق المقرر في الدستور والذي تقول القوى المعارضة أنه حق أصيل غير مقيد بأي قانون، عادت وفي هذا البيان لتعترف صراحة بوجود رابط بين هذا الحق الدستوري والقانون. ويحق لنا هنا أن نسأل سؤالاً : ما الذي تعنيه عبارة : ما لم تقرر السلطات وبأسباب كافية أن هناك ما يجوز أن يخل بالسلام والأمن إستناداً الى المادة 127 اجراءات سن1991ة، المعدلة في الع 2002ام ؟ من الواضح أن العبارة تعني – ببساطة شديدة – أن تقديرات أمر السلام العام والأمن، أمر متروك للسلطات المختصة والسلطات المختصة المقصودة هنا هي النيابة العامة أو وزارة العدل، فإذا بدأ لهذه السلطات أن الأمر بما يقود لاخلال بالسلامة العامة فإن من حقها التدخل بالمنع وهذا ما حدث بشأن تظاهرة الاثنين الماضية، فقد قررت النيابة العامة بالولاية أن قيام التظاهرة قد يخل بالسلامة العامة، وهي مسألة – كما قررها القانون – تقع ضمن السلطة التقديرية للجهة العدلية المختصة، وبالطبع لا يمكن أن يتم تقرير ما اذا كانت التظاهرة سوف تهدد الأمن أو السلامة العامة ما لم يتقدم الذين يزمعون القيام بها بطلب للجهة المعنية لتقوم هذه الجهة بوضعه أمام الجهة العدلية وتجري مدارسة دقيقة له. اذن، لم تأت القوى المعارضة بجديد، وها هو بيانها يورد ذات ما قالت به السلطات الحكومية، وغنى عن القول هنا – ان كنا نتحدث بمنطق وبعيداً عن المغالطة – أن قول القوى السياسية أن تظاهرتها ستكون سلمية ليس هو وحده المعيار الذي على أساسه تمنح التصديق أو الاذن، فالسلطة الحكومية هي المعنية وفقاً للدستور والقانون بتحديد سلمية هذه من غيرها وهي المعنية بتحديد مدى ملاءمة التوقيت والظروف والمعطيات الماثلة، واذا انجرفنا وراء كل من يقول لنا أن لديه تظاهرة سلمية يود القيام بها دون أن تأذن له الجهة المعنية بذلك، فإن أحداً لن يكون بوسعه السيطرة على الأمور اذا ما انحرفت عن مرماها الحقيقي ويظل السؤال المثير حقاً للاستغراب قائماً، ما هو الأمر الذي يجعل القوى السياسية تستشعر أنفة أو كبرياءً يمنعها من طلب التصديق بتسيير مواكبها وتظاهراتها؟ هل يعتبر الخضوع لنصوص الدستور والقانون اذلالاً وتقليلاً من الشأن؟ هل تنظيم الممارسة الديمقراطية وضبطها بالضوابط والقواعد – لمصلحة الجميع – هو اضرار بالحقوق الديمقراطية؟