إنتزع المشهد الذي كانت تنقله عدداً من شاشات التلفزة العالمية من على الضفة الغربية لنهر النيل قبالة قبة البرلمان السوداني بأم درمان من العاصمة السودانية الخرطوم، إنتزع دهشة عارمة من كل الذين كانوا يتابعونه صبيحة الإثنين الماضي السابع من ديسمبر الحالي فقد كان أمين عام الحركة الشعبية السيد باقان أموم ونائبه ياسر عرمان يتحدثان بالهاتف النقال وعلى الهواء مباشرة لهذه الفضائيات وهما قيد الإعتقال لدى الشرطة السودانية، ولاحظ المشاهدون مقدار الدهشة التي لم يستطع محاوريهما من مذيعي القنوات إخفاؤها وهم يعيدون السؤال للمعتقلين عن كيفية وجودهما في محبس الاعتقال، وفي ذات الوقت بحوزة كل منهما هاتفاً نقالاً أتاح لهما – في أريحية وبحبوحة من الحرية – الحديث عن فقدانهما لحريتهما وإنتهاك حقوقهما!!، والأمر بالفعل ومهما قلّبناه من مختلف وجوهه مثير للدهشة، فقد كانت كل هذه الزوبعة التي أثيرت في أقل من فنجال تتركز من أولها لآخرها في أمر غاية في البساطة وهو أن الذين تجمعوا أمام البرلمان السوداني، وجمعوا الناس وأجروا تعبئة سياسية واسعة النطاق فعلوا ذلك دون اتباع القواعد الجديرة بالإتباع في هذا الصدد، وهي قواعد ارتضوها ليس اليوم أو أمس وإنما منذ أن وقعوا اتفاق السلام في نيفاشا عام 2005، وصاغوا ما اتفقوا عليه نصاً في بنود الدستور الانتقالي الذي يحكم به السودان الآن والصادر في ذات العام 2005 – فالدستور يقر حق التجمع والتظاهر وتسيير المواكب وهو أمر يتصل بالحريات ويتصل بداهة بالممارسة الديمقراطية ولا يمكن لعاقل أن يتصور حريات وممارسة ديمقراطية بغير تظاهرات ومواكب سلمية، غير أن هذه التظاهرات والمواكب وبقدر ما هي حقوق مكفولة للكافة فهي مرتبطة – وليست مقيدة – بالقواعد والقوانين، فالدستور وباعتباره أب القوانين، والمعين الذي تغترف مه القوانين نصّ صراحة على أن ممارسة حق التظاهر والتجمع وتسيير المواكب يتم وفقاً لمقتضيات القوانين وقانون الاجراءات الجنائية السوداني سن1991ة وبالتحديد المادة (127) ينص على ضرورة وجود اذن مسبق من قبل الجهة المختصة (الوالي أو المعتمد) يمنح الحق للجهة الطالب في اقامة التظاهرة أو الموكب، وذلك لأن التظاهر وتسيير المواكب عمل جماهيري يستلزم تأميناً شرطياً، ومنعاً لارتكاب جرائم أو أعمال عنف ويكفل للمتظاهرين التمتع بحماية السلطات الأمنية حتى لا يندس مخربون وسط المتظاهرين أو يخرج خارجون عن سياق التظاهرة الى فضاء آخر فتختل المعادلة بأسرها. وقد أكدت الجهات المختصة أنها لم تتسلم طلباً للإذن باجراء التظاهرة ومن ثم فإن من الطبيعي أن يكون الفعل مخالفاً للقانون، وكما قال كل من الناطق باسم الشرطة السودانية ومدير شرطة العاصمة الخرطوم فإن الشرطة وباعتبارها جهة منفذة للقانون ومسؤولة عن حماية السلامة العامة تصدّت للمجتمعين وفتحت ضدهم بلاغات تحت المادة (69) التي تتحدث عن الاخلال بالسلامة العامة. اذن كان كل من تم اعتقاله بواسطة الشرطة سواء أموم أو عرمان أو غيرهما مخالفاً لهذه المادة، وحرصت الشرطة على أن تكفل لهم جميعاً حقوقهم وعاملتهم معاملة خاصة وصلت الى درجة الحديث للفضائيات!! لقد كان ما جرى وبعكس ما كانت تتوقعه القوى التي ابتدرت التظاهرة أمراً ايجابياً في ميزان السلطات السودانية، فالممارسة الديمقراطية حتى في اعرق البلدان الديمقراطية لا تتم عن طريق تجاوز القانون ولا عن طريق البحث عن الفوضى، والحقوق ومهما كانت مستحقة لا تنتزع كما تفعل الوحوش في الغابات!!