ها نحن نتابع على شاشات الفضاء استفتاء أجمعت كل صحافة “إسرائيل" على وصفه بالتاريخي لأنه يعني أن السودان سيصبح سودانين خلال أيام، ولا نعرف كم سيصبح خلال سنوات . “إسرائيل" تجهّز نفسها منذ فترة لتكون أول من يحظى بعلاقات مع “دولة الجنوب" التي جاهر قادتها بهذا التوجّه، وربما يفعلون ذلك معها قبل أن يفعلوه مع دولة الشمال . صحافة “إسرائيل" تتحدّث عن “دولة الجنوب" التي ستفتح ذراعيها لرجال الأعمال “الإسرائيليين"، والتي ستصبح سوقاً لبضائعها من السلاح، وسنرى نتائج هذا السلاح على استقرار الجنوب والشمال وما بعدهما شمالاً وغرباً، وسنرى إن كانت ستصبح شريكاً ثانياً أم ثالثاً في نفط الجنوب . صحافة “إسرائيل" لا تكتفي بحثّ الأسرة الدولية على المسارعة إلى احتضان دولة الانفصال، لكنّها تحرّضها على قطع العلاقات مع عمر البشير بدعوى وجود أمر اعتقال بحقّه من “العدالة الدولية" . صحافة “إسرائيل" لم يرق لها إبداء واشنطن استعدادها لتحسين العلاقات مع السودان وشطبها من قائمة الدول الداعمة ل “الإرهاب"، بل ووضع أمر الاعتقال على الرف، إن هي باركت انفصال جنوبها، وربما بعد ذلك ستشطب الأمر وتمنح البشير شهادة حسن سلوك عندما يوافق على استفتاء على انفصال دارفور . نتابع هذا “الهرج والمرج" المصاحب للاستفتاء، ويحق لنا أن نغضب إذ نرى الحلم بالوحدة العربية، ليس يتبدد فحسب، إنما يذهب معه احتمال بقاء البقايا . حلم الوحدة تساقط كأوراق الشجر الزائدة، وتبعثر مثلما دول العرب . يحق إذاً لمغن سوداني مثل محمد الوردي أن يذوب حزناً وهو يرى نصف قرن قضاه يتغنى بوحدة الشمال والجنوب، يهوي كبرج تفجر من الداخل . من حق القلب الذي خفق على إيقاع الأمل أن يتفطّر ألماً على زمن تحوّل إلى غبار ومسرح ملأ فضاءه خواء الروح لجيل لا يكترث لجدلية العلاقة بين الوحدة والبقاء . كم نتمنى لو أن الوطن العربي، وليس السودان فحسب، حث خطاه ليكون حديقة تحتضن كل تنوّع الأزهار . أن يكون كعائلة الشيخ الجنوبي جيمس مثالاً لاندماج الناس على أساس المواطنة لا الديانة والعرق . عائلة يعيش في كنفها جيمس المسلم وأبناؤه وبناته العشر الموزّعون على ديانتين، من دون أن يفسد تعددهم للود قضية . كم نتمنى أن ننظر لبعضنا بعضاً من دون نظارات طائفية أو عرقية مثلما ننظر للآخرين الذين نرتاح لهم، فلا نتذكّر ديانة ليونيل ميسي أو ريكاردو كاكا أو رافائيل نادال أو كاسباروف، وهم يمتّعوننا بعروض كرة القدم والتنس والشطرنج . الأرض واسعة والناس متنوّعون، ولا يمكن حشرهم جميعاً في صفحات ثقافة واحدة أو حزب واحد أو دين واحد أو رؤية واحدة، وإذ هم جزء من الوجود المتنوّع، فلا يمكن لفئة أن تلغي أخرى . منذ بدء الخليقة، تفترس الأسود الغزلان فلم تلغِ الأسود وجود الغزلان . كل واحد فينا يحمل داخله تعدّدية المزاج والذوق والانطباع وحب الألوان والمكان والزمان، فلماذا نضع أنفسنا أمام خياري أن نكون متجانسين في الفكر والدين ولون القميص أو ننفصل؟ ملاحظة للإعلام العربي: ليس صحيحاً أن الاستفتاء يتعلّق بمصير الجنوب، إنما بمصير العرب . المصدر: الخليج 21/1/2011