قطعاً ليس من أمر يشغل الشارع السياسي والشارع العام في السودان، والمنظمات وكثير من دول الجوار والمحيط الإقليمي والعالمي بدرجات متفاوتة سوى أمر استفتاء تقرير المصير المقرر إجراؤه في الحادي عشر من يناير المقبل، أي بعد أقل من ثمانين يوماً هي ما تبقى لأن يصبح السودان دولة واحدة مثلما هو الآن، أو يكون دولتين إحداهما شمالية، والثانية جنوبية. الآن كثير من النخب السياسية تناقش الأمر بعد أن (وقع الفأس في الرأس) كما نقول في أمثالنا الدارجة أو بعد أن (سبق السيف العذل) كما تقول الأمثال العربية، وهذا قطعاً لن يجدي ولن يفيد فقد (قطعت جهيزة قول كل خطيب) وأصبح ما يدعو له الكثيرون مثل الحرث في البحر الذي لن يبقي لنا بذرة للزرع أو آلة للحرث ولا ينتج ثمرة مقبولة إلا ثمرة حراماً في حالتي الوحدة أو الانفصال. مشكلة بلادنا الكبرى تكمن في داء عضال لا نرى له علاجاً يلوح في الأفق، وهذا الداء هو ساستنا الذين جعلوا من أنفسهم أوصياء على الشعب وصادروا حقه في أن يقول كلمته الحقيقية في الوحدة أو الانفصال، لأننا نعلم علم اليقين أن صوت المواطن الجنوبي هو الصوت الأخير الذي لن يرجح كفة على كفة إذ أن الأمر قد حسمه قادة الحركة الشعبية، وساعدهم على ذلك التباطؤ المتعمد أو غير المقصود في الفعل السياسي من جانب المؤتمر الوطني لأن تدفع رياح الوحدة مركب الوطن نحو الأمام وتملأ أشرعته للإسراع نحو الهدف الشعبي المنشود. يعجب المواطن العادي في الشمال والجنوب من جعل أمر تقرير المصير بيد أبناءالجنوب وحدهم خاصة في أمر الانفصال.. ولكن يبرز سؤال مهم.. وهو ماذا سيكون الموقف العام في السودان إذا ما اختار الجنوبيون الوحدة(؟) هل سيقبل الشماليون بهذا الأمر (؟) إذا حدث ذلك فإن الوحدة ستكون قسرية ومفروضة على الشمال، وهذا قطعاً يتعارض مع المنطق الاجتماعي قبل أن يتعارض مع المنطق السياسي. في كتابه الموسوم ب (جنوب السودان بين قوة السلام وسلام القوة) يورد الدكتور أبو الحسن فرح وثيقة مهمة للسكرتير الإداري الانجليزي بالسودان السير جيمس روبتسون في ديسمبر عام 1946م جاء فيها الآتي: «يجب أن نعمل على أساس أنّ سكان جنوب السودان في الحقيقة أفارقة وزنوج خلص ولكن العوامل الاقتصادية والجغرافية مجتمعة تجعل صلتهم بشمال السودان العربي الذي يتصل بدوره بأقطار الشرق الأوسط صلة وثيقة جداً، ولكن ومع ذلك يجب التأكد بأنه يمكن عن طريق التقدم الثقافي والاجتماعي إعدادهم في المستقبل ليكونوا أنداداً متساوين مع الشماليين اجتماعياً واقتصادياً في سودان المستقبل» انتهى ما جاء في تقرير السيد جيمس روبتسون عام 1946م. كتاب الدكتور أبو الحسن فرح مهم لمراجعة المواقف حتى تعود بلادنا واحدة موحدة في لاحق الأيام لأن الانفصال في الوقت الحالي أصبح واقعاً لا عودة منه.. انفصال هنا.. واستقلال هناك.