هي واحدة من مفارقات عصر ما بعد التوازن الدولي، والأكثر دقةً عصر ما بعد حدث الحادي عشر من أيلول، وهو ما أراه دائماً مفتاح باب جهنم على السياسة الدولية. هذا التاريخ أطلق حرباً مفتوحة الجغرافيا لقفص الذئاب على حظيرة العالم المترنح تحت قبضة القطب المنتصر في الحرب الباردة، بعد أن اعتقد البعض أن ذلك سيفضي إلى انفراج في السياسة الدولية المكبلة بتداعيات تلك البرودة. بعد أيامٍ قليلة لانتهاء حقبة الحرب الباردة أعلنت الحرب على الإرهاب، ورفض دعاة هذه الحرب توصيف العدو الافتراضي وهو الإرهاب، وتحركت البوارج وحمولتها نحو الشرق فتحددت جغرافية الإرهاب، وزلة لسان كادت تحدده بالإسلام، وهرباً من أي حدود قد تقيد مسار تلك الأساطيل واتجاهاتها تم سحب الإشارة، لأن بقاءها لا يتيح عولمة مشروع الحرب، وسيناقض فرضية وضع كوريا الديمقراطية وبقية الدول المناهضة للسياسة الأمريكية لشمولها في قائمة الدول المعنية بالإرهاب كونها لا تدين بالإسلام. ويخطئ من يعتقد أنها بادرة حسن نية تجاه الدول الإسلامية الصديقة. لم تكن أشهر التسخين الأولى للعملية العسكرية موفقة في محطتها الأولى أفغانستان، ولكسب الوقت في ظل مناخٍ دولي تخيم على حواسه رائحة البارود، رأت قيادة الغزو الأمريكي توسيع دائرة ساحة القتال، ولأجل ذلك قررت أن تبقي كلمة السر طليقة وتتحول من اسم إلى رمز تنقله إلى حيث تنقل ساحة القتال اللاحقة، فكان الخيار التالي في العراق لأن كلمة السر هاربة إلى العراق وتحت حماية النظام العراقي السابق، ولأن قطعان اللاحقين بموكب الحرب أصبحوا في مواجهة مجتمعاتهم التي أدركت منذ اللحظة الأولى أن في الأفق مشروعاً أمريكياً، بدأت خطواتهم أقل إقداماً، ومعها بدأت ملامح التعثر التالي للحرب على الإرهاب بالفهم الأمريكي الأوحد. تحت غبار ودخان الحرب التي انتقل اتجاهها الرئيس إلى المنطقة -وهو دلالة لجغرافيا استعمارية، لأن واقعه هو المشرق العربي- برز العامل الإسرائيلي كطرفٍ رئيس في هذه الحرب برغم إصرار المنظرين الأمريكيين على وجوب حجب العامل الإسرائيلي من مسار الحرب لتحافظ على زخمها الدولي، وتجنيبها الغوص في مفردات الصراع العربي الإسرائيلي. ولأن الكيان المدلل يصعب ضبط إيقاعه، فلا بأس من الإقرار بشراكته المباشرة في هذه الحرب وإعلان دوره في سياق مشروع إسرائيل الكبرى كجزء من المشروع الأمريكي لتبدأ بتسوية الجغرافيا السياسية الإقليمية بدءاً من لبنان، فكان شعار الشرق الأوسط الجديد كمنتجٍ أولي للحرب على الإرهاب، وكان اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري إشارة الانطلاق لاستراتيجية متكاملة للحرب على الإرهاب وفق مسار دولي جديد اسمه الفوضى الخلاّقة، وهي رؤية مشرعة الأبواب لتحقيق بعض أهداف الحرب الكبرى. ولأن ساحة الحرب الثالثة لم تكن أكثر يسراً، آثرت أمريكا بقاء أبواب كل الساحات مفتوحة للفوضى الخلاقة التي تهدف لتقسيم المجتمعات الوطنية في كل موقع على أسسٍ دينية أو طائفية أو عرقية أو قبلية أو قومية تضمن استمرار مناخ الفوضى بهدف الوصول إلى تقسيم المقسم أصلاً وتوطين الاختلافات للتغذية الدائمة للتجزأة، وما زالت إدارة الفوضى الخلاقة تراهن على ذلك في لبنان، وتنسج على المنوال نفسه في اليمن، وتقطف أولى الثمار في السودان. يتذكر الجميع أن السودان كانت على قائمة أهداف الحرب، لكنها لم تكن في المقدمة حسب الأولويات الأمريكية، مع أنها كانت على قائمة التسخين في المنطقة العربية إلى جانب ليبيا من خلال الاعتداءين المتتاليين على ليبيا والسودان. مع التذكير أن رأس القائمة المعلن هو محور الشر كوريا الديمقراطية العصية على الطاعة الأمريكية، وإيران النموذج للتمرد، والعراق الذي يشكل عمق الممانعة العربية القوي. ولم تكن المملكة العربية السعودية الحليف التاريخي خارج القائمة. أما سورية فكانت ضمن كفالة المشروع اللبناني، وفي مسار الدور العسكري الإسرائيلي في ظل نجاحات الحرب الأمريكية المتخيلة. واقع مسار الحرب الكبرى ونتائجها لا يدعو للقول بفشلها، بل بتعثرها وملامح فشلها التي يعلنها بعض مسؤوليها مباشرةً، أو تشير إليها فوضى السياسة الخارجية والعسكرية الأمريكية، وآخرها الإعلان عن تخفيضٍ كبير في ميزانية الدفاع الأمريكية بمقدار 78 مليار دولار على مدى السنوات الخمس القادمة في الوقت الذي تتوزع فيه معظم هذه القوات في أكثر من بقعةٍ ساخنة على الجغرافيا الدولية. ولكي لا تطوى صفحات حرب دامت عقداً كاملاً من دون إنجاز بدأت تتجه ذراع الفوضى الخلاقة إلى اليمن وبغطاء الحرب على الإرهاب، بالآلية ذاتها التي بدأتها في العراق، وهو وجود القاعدة في هذا المكان، وهو ما يعزز القناعة بأن ما بين الإرهاب وأمريكا ليس إلاّ توزيع أدوار على الساحة الدولية. في السودان طويت راية الحرب على الإرهاب، وانتصبت راية الفوضى الخلاّقة التي تنتعش بتوفير الأزمات الوطنية الداخلية، وهي متنوعة الألوان، ومختلفة الأشكال بين النظم ومجتمعاتها، لكن أخطرها ما يكون للعامل الديني جانب منه. ومع أن الأزمات الداخلية السودانية تقع في الإطار العام للأزمات المحلية، ويغلب على معظمها الطابع القبلي، والطريقة المريبة في إدارة هذه الأزمات واحتوائها، وأن الاختلاف مع المركز هو خارج الجغرافيا الدينية، كما هي حال مشكلة دارفور، فإن مشروع فصل جنوب السودان عن شماله يتوفر في بعض جوانبه العامل الأخطر وهو العامل الديني، بدا وكأنه مشروع أممي يغمره تعاطف غربي قل نظيره في حالاتٍ مماثلة، ولم يؤخر بعض الغرب عن الاعتراف بالمولود الجديد سوى نقيصة واحدة في المشروع وهو اسم الدولة الوليدة، لكن الخيال السياسي حدد ملامح المولود ومستقبله، وهو تحديد يقع في خانة التنبؤات، وحتى وقت كتابة الموضوع يبقى المواطن العربي يتحسس آلام وفاة بولادة مولود لا اسم له ولا لون. محلل عسكري وسياسي المصدر: تشرين السورية 26/1/2011