بعد ساعات قليلة على وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001 منح الرئيس الأمريكي وقتذاك جورج دبليو بوش وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA الضوء الأخضر لخطف مواطنين عرب ومسلمين في مختلف دول العالم ظنًّا أن لهؤلاء صلة بتنظيم (القاعدة) الذي كانت واشنطن لتوها حملته مسؤولية الهجمات على نيويوركوواشنطن. وضرب دبليو بوش بعرض الحائط القوانين والمواثيق الدولية والتي من ضمنها احترام سيادة الدول، بما في ذلك أراضي دول حليفة أو صديقة للولايات المتحدة. قبل أسابيع قليلة عرف الرأي العام العالمي بعد نشر موقع"ويكيليكس" أن القوة العظمى التي تدعو إلى نشر الديمقراطية والدفاع عن الحريات في العالم، هي نفسها، خرقت القوانين والمواثيق الدولية إن كان من خلال الحرب على أفغانستان أو غزو العراق أو انتهاك حقوق الإنسان والاستمرار بما يسمى الحرب على الإرهاب واستخدام التقنية العالية لقتل"المشتبه بهم" آخذة بعين الاعتبار التسبب بقتل وأذى أبرياء لا صلة لهم بأي تنظيم معادي لها، وهذا ما ينطبق على غاراتها المتواصلة على مناطق في باكستان، والاعتداء على سيادة أراضيه عبر توجيه صواريخ تحملها طائرات بدون طيار من طراز (بريداتور) يحركها طيارون يجلسون في مراكز في مقر CIA في لانغلي قرب واشنطن. ومن ضمن ما كشفته الوثائق التي هي عبارة عن رسائل وتقارير بعثها سفراء ودبلوماسيون أمريكان إلى وزارة الخارجية في واشنطن، ما أوضح السلوك المتعجرف الذي قام به دبلوماسيون أمريكان للضغط على حكومات دول متحالفة مع الولاياتالمتحدة كي تمنع محاكمة عملاء الاستخبارات الأمريكية الذين تم فضح أسمائهم الحقيقية عن طريق الصدفة وطلب مدعون عامون في بعض الدول الأوروبية الغربية استدعاءهم للتحقيق معهم تمهيداً لمحاكمتهم. قبل مدة وجيزة عرف الرأي العام الألماني أن واشنطن هدّدت الحكومة الألمانية السابقة التي كان يتزعّمها المستشار غيرهارد شرودر، بعد أن لجأ خالد المصري إلى القضاء والرأي العام، وهو ألماني من أصل لبناني تعرّض للخطف من قبل كوماندوس أمريكي عند دخوله حدود مقدونيا وجرى نقله عبر بغداد إلى سجن أمريكي في أفغانستان أمضى فيه نصف عام دون أن تعرف أسرته في ألمانيا شيئاً عن مصيره، إلى أن أفرج الأمريكان عنه بعدما تأكد لهم أنه لا يمت لأي تنظيم معادٍ لها بصلة وأن اسم عائلته"المصري" تسبّب في لغط ووقع الأمريكان في خطأ ظنًّا أنه من مؤيدي"القاعدة" وحاصل على لقب المصري مثلما يسمى أتباع تنظيم أسامة بن لادن أنفسهم مستخدمين الاسم الأول ثم اسم العائلة حسب البلد الذي ينحدرون منه. وقد حصل الأمريكان على تعاون وثيق من حكومات أوروبية غربية لاسيما أجهزتها الأمنية لغرض العثور على الذين تعتبرهم الولاياتالمتحدة أعداء لها وخطفهم من البلاد التي يعيشون فيها. من ضمن الوثائق التي كشف عنها موقع"ويكيليكس" معلومات تتعلق بمصير إمام ميلانو الإيطالية السابق أسامة مصطفى حسن "أبوعمر". فقد تم التعاون في عام 2003 بين CIA وأجهزة الأمن الإيطالية لخطفه ونقله إلى الخارج ولما تم الكشف عن هذه العملية المشتركة توصل المدعي العام في ميلانو لمعرفة أسماء العملاء الأمريكيين الذين شاركوا فيها وتجرأ على إصدار مذكرة إيقاف بحقهم وطلب من حكومة بلاده التي يتزعمها سيلفيو بيرلسكوني تسليم المذكرة إلى حكومة الولاياتالمتحدة لاتخاذ الإجراءات اللازمة وتسليم المطلوبين للقضاء الإيطالي. كان من المنتظر أن تكون محكمة في مدينة ميلانو أول من يحاسب الولاياتالمتحدة على ممارساتها غير المشروعة التي قامت بها في دول أوروبية غربية ومناطق أخرى في العالم، وكان يمكن أن يردعها القضاء الأوروبي عن الاستمرار بهذه الممارسات التي ما زالت تقوم بها حتى اليوم. إلا أن واشنطن ضغطت بصورة خاصة على حلفائها الذين ساعدوها في إحباط جهود أجهزة القضاء في دولهم وإفشال الجهود لمحاسبة عملائها على جرائمهم. واستناداً إلى المعلومات والوثائق التي كشفها موقع"ويكيليكس" تدخّل صناع القرار السياسي بواشنطن في عام 2007 عندما بدأت محكمة في ميلانو السعي لمحاسبة عدد من عملاء CIA لخطفهم"أبوعمر" وهو مواطن مصري كان يعيش منذ سنوات في إيطاليا في عام 2003 حين كان في طريقه من مسكنه إلى المسجد. وعندما انكشف الدور الأمريكي توضح وثائق"ويكيليكس" أن إدارة الرئيس دبليو بوش حاولت التدخل لإجهاض مساعي المحكمة الإيطالية ووقف المدعي العام عن مواصلة التحقيق بهذه القضية، في البداية عبر الضغط على المسؤولين في ميلانو ثم على الحكومة الإيطالية في روما. فقد استهل الأمريكان مساعيهم عبر القنوات الدبلوماسية وعندما لم تفلح أدخلوا القضية على محادثاتهم على أعلى المستويات مع المسؤولين الإيطاليين خاصة مع رئيس الحكومة الإيطالية بيرلسكوني. من ضمن التقارير التي أرسلتها السفارة الأمريكية في روما إلى واشنطن محاولة طمأنة المسئولين في إدارة دبليو بوش وخاصة وزير الدفاع روبرت غيتس أنهم سمعوا من كبار المسؤولين الإيطاليين تأكيدات بأن الحكومة الإيطالية تبذل قصارى جهدها لمنع القضاء الإيطالي إصدار مذكرة إيقاف دولية ضد عملاء CIA المتورطين بخطف"أبوعمر". وقد تصرّف الأمريكان تماماً مثلما تصرّفوا مع الألمان حين سعوا لمنع المدعي العام بمدينة ميونيخ إصدار مذكرة إيقاف دولية ضد هؤلاء العملاء ونجحت ضغوطهم وتعاون الحكومة الألمانية في منع تسليم المذكرة إلى الإدارة الأمريكية. كذلك جرت عملية خطف "أبوعمر" بالطريقة المعهودة التي مارسها عملاء CIA الذين كانوا يقومون بها بناء على الضوء الأخضر من دبليو بوش بعد هجمات 11/9 وخطفوه بتاريخ 17/2/2003 حين كان يسير في أحد شوارع ميلانو ودفعوا به إلى باص صغير شق طريقه إلى المطار وتم نقله معصوب العينين إلى مصر حيث أودع السجن وكما قال تعرّض إلى التعذيب على أيدي الاستخبارات المصرية بحضور أمريكيين وبعد أربعة عشر شهراً تم الإفراج عنه وحتى اليوم يخضع للإقامة الجبرية داخل مسكنه. بما يخص "أبوعمر" واجه الأمريكان المشكلة نفسها التي واجهتهم حين فضح خالد المصري جرائم الخطف في أوروبا بعد عودته من السجن الأمريكي في أفغانستان وطرق باب صحيفة (زود دويتشه) بمدينة ميونيخ بصحبة محاميه ليطرح قضيته على الرأي العام لاسيما أن أحد المسؤولين في ألمانيا لم يذكر قبل ذلك كلمة واحدة عما كانت تقوم به الاستخبارات الأمريكية سرا في مطارات ألمانيا التي كانت تحط فيها طائرات CIA قادمة من عدة بلدان وعلى متنها مخطوفون عرب ومسلمون في الطريق إلى سجون أمريكية خارج الولاياتالمتحدة ومنها"غوانتنامو". ففي إيطاليا اكتشف قضية "أبوعمر" بعض الصحفيين الإيطاليين ومدعي عام مستقل ونتيجة للأخطاء التي وقع فيها الخاطفون وسوء تنفيذ خطة خطف"أبوعمر" تم فضح أسمائهم ودور الأجهزة الأمنية الإيطالية وخرجت الفضيحة إلى العلن. من ضمن الأخطاء أنهم احتفلوا في أحد الفنادق بخطف"أبوعمر" وبينما كان يجلس في طائرة CIA كانوا هم يتناولون الأطايب والمشروبات على نفقة الاستخبارات الأمريكية وطلبوا فواتير الأمر الذي حصل المدعي العام على نسخ عنها حتى إن فريق تليفزيون أوروبي وصل إلى باب مسكن أحد الطيارين الأمريكيين الذين نفذوا عمليات الخطف. في نهاية تحقيق استغرق أشهراً أصبح المدعي العام في ميلانو يستحوذ على ملف كبير يتضمن أسماء المتورطين وعناوينهم. كانت المحاكمة عندما بدأت في ميلانو بشهر يونيو عام 2007 عبارة عن حلم مزعج. على الرغم أنها بدأت دون مثول المتهمين إلا أن مضي المحكمة المرافعات حتى بغيابهم حصلت على اهتمام إعلامي عالمي ولم يعجب واشنطن أن الولاياتالمتحدة تجلس في قفص الاتهام. يعتقد المراقبون أن هذا هو السبب الذي دفع الإدارة الأمريكية إلى الضغط على الحكومة الإيطالية بشكل أكثر من الضغط الذي مارسته على الحكومة الألمانية. وتفيد وثائق"ويكيليكس" بأن السفير الأمريكي في روما هدّد في مايو 2006 المسؤولين الإيطاليين بتراجع علاقات واشنطن مع روما إذا طلبت محكمة ميلانو إيقاف العملاء الأمريكيين. وذكر السفير الأمريكي في روما في تقرير أرسله إلى واشنطن بعد اجتماع عقده بتاريخ 24 مايو عام 2006 مع جياني ليتا أحد كبار مستشاري الحكومة الإيطالية أشاد فيه بتعاون روما وكتب: لقد أوضحت له أن موافقة الحكومة الإيطالية على إصدار مذكرة إيقاف سوف تتسبّب بأزمة كبيرة بين البلدين. لم ينتظر ليتا طويلاً فسارع إلى عقد محادثات طارئة مع المدعي العام في ميلانو ومهّد للقاء بين المدعي العام الأمريكي في ذلك الوقت مع وزير العدل الإيطالي كليمنتي ماستلا لغرض احتواء القضية وإجهاض ما يسعى له المدعي العام في ميلانو. المصدر: الراية 9/2/2011