مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملامح من العدوان الفكري على أمتنا

العدوان الفكري حقيقة كبرى من حقائق وجودنا ، لا تبددها محاولات مشبوهة لتفنيدها فتلك المحاولات هي نفسها جزء لا يتجزأ منه وصورة من صوره العديدة.
ومع أن العدوان الفكري من العبارات السيارة في الأدبيات الإسلامية إلا أنها عبارة غالبا ما تساق دون إيضاح كاف لمدلولها، ولا ضبط لما يراد بها ، ولاشك أن تحديد المراد من المصطلح أو العبارة المستخدمة مهم جدا في مجال الفكر ومداولاته ، ذلك كي ينطلق الناس من محددات معينة تنأى بهم عن النزاعات التائهة، والجدل العقيم.
وبالنسبة لصاحب هذه الورقة فالعدوان الفكري يعني المحاولات الدائبة المتصلة من جانب القوى الغربية – والتي تعود إلى أواسط القرن السابع عشر الميلادي حيث تعددت قواعد الاستشراق – لتفكيك منهج الحياة الإسلامية من خلال الإبدال للرؤى والمفاهيم والتشريعات والقيم والعادات والأذواق وأنماط السلوك وما اتصل باللغة أيضا مما ساد في عالم الإسلام حتى تنصاع كلها لمقابلاتها الغربية . ولو أردنا كلمة جامعة لقلنا : العمل على إزهاق المرجعيات الإسلامية وتبديدها في جميع مجال الحياة.
وعلى هذا التحديد فالغزو الثقافي الذي نتناوله لا يستثني شيئا من المنظومات التي تقوم عليها الحياة الإسلامية ، أقول ذلك وأوكد عليه لأمرين مهمين أولهما : النأي بهذه الورقة عن المقولات والتصورات التجزيئية ، والمتكئة على مماحكات أكاديمية تضحي بالموضوع على حساب الشكل وتتقول بالمنهج العلمي والصرامة البحثية وما هي من ذلك في شيء.
وأما الأمر الثاني الأمرين التلاؤم مع مقتضى اللحظة التداولية للحقائق ، وأعني بذلك أننا نواجه واقعا سافرا في توجهاته نحونا كأمة تدين بالإسلام ، صارخا في وقائع استهدافه لكل جزئية من جزيئاتها المنبثقة عن ذلك الدين . مزلزلا لجل مسلماتها إن لم يكن كلها ، مقتحما لكل حوزاتنا التي كنا نظنها آمنة ، حتى لم تعد هناك دائرة ، ولو في المجال الإيماني العقدي بنجوة من ذلك الاقتحام والغارات المكثفة .
فلحظة مثقلة بتلك الحقائق والوقائع لا ينبغي تضييق إطار النظر والتداول المرتبط بها ، ذلك كي نمسك بخيوط المتفرقات التي تنتظمها الغارة الشاملة علينا، وتتضح المسارب والمخرجات الخفية التي لا تكاد تبدأ أو تنتهي إلا بما يتصل بالثقافة.
هذان عنوانان لكتابين مختلفين كان لهما مداهما في الأوساط المهتمة حين صدورهما ، وقد مزجت بينهما متعمدا ، إلا أن هذا المزج أبان عن دلالة منسية في عالمنا ،مع أنها حقيقة من حقائق وجودها، أما أول الكتابين : الغرب والعالم فقد ألفه كبير فلاسفة التاريخ الغربي أرتولد توينبي صاحب موسوعة : دراسة للتاريخ، ويعود ذلك الكتاب إلى ما قبل منتصف القرن الماضي بينما ألف ثاني الكتابين : 501 عاما ومازال الغزو مستمرا – ويعني به غزو الغرب للآخرين من بني الإنسان في أواخر القرن نفسه على يدي عالم اللغويات والفيلسوف الموسوعي نعوم تشومسكي.
وكلا الكتابين معني بإبراز حقيقة الغرب المبادر بالاعتداء دوما وعن وعي وإدراك تام ، وبخطط مسبقة ومناهج دقيقة ، تستخدم دائما زبدة معارفه في كل مجال.
هذا ومهم أن ننتبه إلى ملاحظات تفيدنا في عمومها ويفيد منها موضوع ورقتنا هذه على وجه الخصوص ، فبادئ ذي بدء اتفق الفيلسوفان الغربيان الكبيران على الصفة المميزة للحضارة الغربية وإنسانها ( المبادرة دوما بالاعتداء) -ومع تباعدهما في الزمان واختلافهما في المشرب والتوجه الفكري- فأول الرجلين أرتولد توينبي مسيحي محافظ تحكمه رؤاه الدينية إلى حد كبير ، وأما نعوم تشومسكي فليبرالي علماني متأثر بالمقولات اليسارية ، فإن يتفق الرجلان وهما من القامات العالية في الفكر الغربي مع اختلاف المنازع والمشارب فذلك مما يستوقف الناظر.
والأمر الثاني أن الفاصل بين الكتابين نصف قرن من الزمان فالكتاب الأول يعود إلى ما قبل منتصف القرن الماضي بقليل ، بينما ألف الكتاب الثاني في أواخر ذلك القرن ، فكان ذلك الفاصل الزماني مزيدا من الدعم والتأكيد لتلك الحقيقة ، بل كان تماديا في الممارسة لها ، فلم يجد ثاني المؤلفين مناصا من إعادة ذلك التأكيد مع الانتباه إلى العمر المديد لتلك الظاهرة والذي يبلغ خمسا من القرون بالتمام والكمال بل تزيد.
الأمر الثالث : إيضاحات الكتابين : فقد أشار توينبي في مقدمة كتابه إلى أنه تعمد اختيار ذلك العنوان : الغرب والعالم وقال إن المنطق البدهي كان يقتضيه أن يأتي بالعالم أولا لأنه الكل والجزء لا يسبقه ولكنه في استقرائه للوقائع التاريخية والمسار العام تبين له أن الغرب كان دائما هو السباق في الاعتداء على الآخرين ، ومن ثم وجد نفسه ملزما بذلك الترتيب.
وأما تشومسكي فقد ألف كتابه في مناسبة هللت لها الأوساط الغربية كلها ،وتبادلت فيها الأنخاب! ، وأفردت لها أعدادا خاصة من مجلات كبرى وعلى رأسها مجلة أمريكية مشهورة هي : ناشونال جيوقرفيك ، تلك المناسبة كانت مرور خمسمائة عام على وصول كريستوفر كولومبس لشواطئ أمريكيا أو ما يسمونه( اكتشافه) لها ، وكمفكر ذي ضمير حي وجد تشومكسي نفسه ملزما بالاختلاف مع بني حضارته ، إذ أنه حين أعمل نظره في الواقعة وما تلاها لم يجد فيها إلا مبادرة دائمة من جانب قبيله الغربي بالاعتداء العنيف على الآخرين والغزو المستمر لهم ، وما خلص إليه أنبأ عنه عنوانه المختار والذي تم تأليفه بعد عام من تلك الذكرى فكان كتابه : 501 عاما ومازال الغزو مستمرا.
هذا وأرجح أن محصلة العنوانين بعد مزجهما كافية في إهداء درس لا ينبغي أن نغفل عنه لحظة ، لاسيما إن أضفنا إليه كلمة واحدة تخصنا فيكون السياق : الغرب والعالم (الإسلامي) : 501 عاما ومازال الغزو مستمرا.
بين استمرارية المشروع الإمبريالي وتوقف المشروع الاستقلالي:
هذه مسألة مصيرية انبهمت علينا لزمان ليس بالقليل ، وهي مسألة الحقيقة الإمبريالية أو الاستعمارية فيما يتصل بنا كقطاع يدين بالإسلام . إذ غاب من ناظرينا أنها ( مشروع ) وأنها أيضا مشروع ما انقطع أداؤه في قطاعنا لحظة وإن غاب مسماه ، وأنه – وهذه هي الفجيعة – في مقابل ذلك المشروع لم يصمم مشروع حقيقي للاستقلال لا جزئيا ولا كليا ، وأن ذلك الذي سمي عندنا بالاستقلال لم يكن إلا وصلا وامتدادا للمشروع الإمبريالي العتيد ، وإنما كان مسمى الاستقلال مجرد حجاب مؤقت لإخفاء أدوائه وتلبيسا متعمدا لحقيقته.
وأمسينا في ظلال لحظة تاريخية تبدد أي وهم متصل بذلك مما يغنينا عن أي جدال . وإنما الذي نريد تبينه وتأكيده هو أن الغرب الإمبريالي كان – وما زال – صاحب مشروع معين ، وطن نفسه على تحقيقه ،مهما طال به الزمان أو حالت دونه الحوائل.
وهو : سلب عالم الإسلام من كل مقومات وجوده المادي والمعنوي – في مقام أول – بحسبان أن ذلك هو السبيل الأوحد لإحكام السيطرة عليه ، شلا لقواه الفاعلة ، وإنهاكا نفسيا معنويا متصلا لإنسانه ، ومحصلة كل ذلك تبديد مشروع نهضتنا المزمع أو المراد.
وقد يبدو الشق الأول من هذه الأطروحة مسوغا مفهوما لا متنازع عليه أعني سلب المقومات المادية والاستحواذ عليها والتصرف فيها ،بما يحفظ المصالح الغربية ويوطد أركان أمنها القومي المزعوم، غير أن الشق الثاني العامد إلى مساواة عملية السلب للمقومات المعنوية وجعلها قرينة للمقومات المادية هو الأمر الذي قد يثير الجدال ويسعره.
وهذه المسألة : سلب المقومات المعنوية للأمة والاستحواذ عليها هو موضوع الغزو الثقافي الذي تجد هذه الورقة في تبيان حقيقته وتوضيح معالمه بإذن العلي القدير.
لقد أوضح العلامة محمود محمد شاكر أن هناك حربين خاضهما الإنسان المسلم مع قوى الإمبريالية الغربية : أما الأولى فهي الحرب التقليدية التي تخاض بالعتاد والسلاح ، أما الثانية –وهي الأخطر – فهي التي خاضها ويخوضها العقل المسلم ، وما لاحظه شاكر ونبه عليه أن الحرب الثانية ما توقفت أبدا بل مضت دائما مجددة لأسلحتها مغيرة لأساليبها وأنه إن لم يفتنا الإحصاء والتدقيق في ضحايا الحرب الأولى فإنه قلما نتنبه لصرعى وجرحى الحرب الثانية والذين يزداد عددهم يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة.
فحرب المفاهيم والرؤى والأفكار تولت الدوائر الاستشراقية الإعداد لها وترتيب برامجها وتحديد مراحل انطلاقها المختلفة ، ولعل كتاب الراحل ادوارد سعيد عن الاستشراق كان كاشفا عن العلاقة الرابطة بين المعارف الاستشراقية التي وظفتها القوى الغربية في تحقيق هيمنتها ، وإخضاعها للقطاع المسلم وعنوان ذلك الكتاب ذو دلالة عميقة لمن تأمله( الاستشراق : المعرفة والسلطة والإنشاء) فكأنه يتحدث عن متوالية ذات حلقات متلازمة ، فالمعرفة هنا هي الرافد للسلطة بحيث غدت هي نفسها سلطة وتلك السلطة هي التي فرخت الإنشاء لقطاعنا على مقتضى الهوى الغربي ، وقد أنجز الغرب هذه المهمة في قطاعنا بنجاح تام ، خلا القليل من المنغصات .
ومن هنا لم يكن المشروع الإمبريالي واقعة عابرة مؤقتة وإنما كان تمددا متصلا إذ لم يقم على هدف نهب محدود ينتهي بنفاذ ما نهب كما تم في أماكن أخرى من العالم أو بمصلحة استراتيجية عابرة. فموضوع ذلك المشروع وهدفه الإنسان قبل الأرض ومن ثم فلا استشراف لنهاياته ، كما تنبئنا الوقائع الأخيرة التي تمت في أفغانستان والعراق إضافة إلى ما تومئ وتصرح به الدوائر الغربية في أماكن وبقاع أخرى من عالم الإسلام مع الذريعة الجديدة المسماة بالإرهاب.
هذا وجدير بنا الانتباه إلى حقيقتين مهم تداولهما والتنبيه إليهما وهما حقيقتان مؤكدتان كحتمية استمرار المشروع الإمبريالي الثقافي في قطاعنا ،بآليات تقويضه وتفكيكه المتعددة والمعتمدة كلها على تمادي واستطالة الغزو الثقافي وتصاعده المستمر.
أما الحقيقة الأولى فهي ما سماه المرحوم محمد أسد ب (شبح الحروب الصليبية) . فتلك الحروب بدفقها العاطفي الوجداني وحلقاتها الطويلة المتجددة واشتباكاتها المترددة بين الديني والدنيوي وبين الاقتصادي والسياسي وما أضحى عليها من طابع قداسة مزيفة ، فحصيلة ذلك صاغ الوجدان الغربي صياغة جديدة بحيث صارت تلك ( الروح الصليبية) نفحة الإذكاء والتأجيج لكل حملات قادمة يشرع الغرب فيها ، خصوصا ما اتصل بأمة وعالم الإسلام وقد اكتسب مصطلح الحملات الصليبية دلالة ومعنى في المعجم الغربي والثقافة الغربية صار يعني ما يراد إضفاء صبغة السمو الرسالي عليه : ومهما تدنى وسقط !
وأما الحقيقة الثانية فهي : شبح الإسلام البديل في المخيلة الغربية ! ولعل هذا مما ( قفل) عقل قطاعنا كله عن الإصغاء له فضلا عن تفهمه واستيعابه ! فالأمة وبحكم الابتزاز النفسي الطويل الذي مورس عليها في إسلامها صارت في حالة إدمان للذل يصعب عليها معه أن تستشرف أفق مجد جديد ، أو تتوق لاستنشاق التبشير برسالتها ، على أن قطاعنا المسلم إن ( جهل) بقيمة وحقيقة ما يملك فإن الآخر عارف خبير بما نملك!
إن الغرب لا يخاف الإسلام في إرهابه المزعوم والذي أشاعه وأذاعه في أوساط الرأي العام العالمي بدرجة صار الإرهاب والإسلام وجهان لعملة واحدة ، فما ذكر الإرهاب إلا وقفز معه الإسلام إلى ذهنية المستقبل والعكس صحيح أيضا.
والقوى الغربية الإمبريالية حريصة كل الحرص على إضفاء صور أسطورية لخرافة الإرهاب التي أشاعتها لتعلو به إلى درجة خوف عالمي لا غربي ، وهي في كل ذلك تخفي وتبالغ في الإخفاء والتستر على خوفها الآخر ، خوفها الأكبر خوف : الإسلام البديل.
نعم إن الآلة الإعلامية الغربية بإمكانياتها الأسطورية وانتشارها المذهل واتكائها على حاكمية حضارتها المطلقة، إنها صكت أسماعنا ، وأسماع العالم كله معنا بمقولة ( الإرهاب ) المزعوم لتلهى عن حقيقة ( الإرهاب ) الحقيقي الذي يشكله الإسلام للغرب وحضارته وإنسانه وساسته ، إن إرهاب البديل ! ولكن باحثا غربيا مسلما هو الدكتور مراد هوفمان لاحظ حقيقة وسمات الإسلام كبديل للحضارة الغربية ومنظومتها كلها في جميع الميادين، فأخذ في تتبعه ورصده وصياغته في كتاب أصدره يحمل عنوان : ( الإسلام كبديل) واللافت للنظر لهجة الحزم الصارم واليقين الجازم التي ساق بها كلماته في المعنى الذي يريد أن يحصر الأذهان فيه إذ يقول في تمهيده للكتاب ( عندما تنافس العالم الغربي والشيوعية على قيادة العالم ، كان يمكن اعتبار الإسلام نظاما ثالثا بينهما ، ولكنه اليوم البديل للنظام الغربي . يتوقع بعض المراقبين بعيدي النظر أن يصبح الإسلام الديانة السائدة في القرن القادم – إن شاء الله- أي هذا القرن الحادي والعشرون – السبب في هذا يقترحه عنوان الكتاب ، فليس الإسلام بديلا من البدائل لنظام ما بعد التصنيع الغربي ، بل هو البديل ) هذا والإحاطة بخلفية هوفمان وخبراته العديدة ومعارفه الواسعة تجعل لكلماته وزنا خاصا. وحري بنا نحن في قطاعنا الإسلامي الأم أن نوليها المزيد من الدرس والتتبع والإضافة لنخرج أنفسنا من دائرة الابتزاز النفسي الذي حبسنا الغرب فيه ونلوذ بدائرة ( الرسالة ) التي ينبغي أن ننشغل بأدائها استنقاذا لأنفسنا ولبني الإنسانية جمعاء ، وفي ذلك الإطار يغير الفهم للإرهاب بحسبانه هاجس بديل في الذهنية الغربية ولا ريب أن ذلك يحمل في طياته أعباء وتكاليف لا مناص لنا من مجابهتها.
ونحن إنما نذكر وننوه بهاتين الحقيقتين بحسبانهما ركنين مهمين في حروب الغرب علينا عامة ، وفي حربه على العقل المسلم خاصة فيما نسميه ونصطلح عليه بالعدوان الفكري.
كتب صمويل هنتغتون مقالته الشهيرة التي تحولت إلي كتاب قبل عقد الزمان ،و لكنك إذا دخلت على مجلة ( شئون خارجية ) في موقع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي فستجد إعلانا جاذبا يغري المشتركين الجدد بحصولهم على نسخة مجانية من ذلك الكتاب : صدام الحضارات ! ولا شك أن ذلك الإعلان مما يوجب استيقاننا ولفت انتباهنا ، فلا ريب أن مجلس العلاقات الخارجية ممثلا في مجلته الشهيرة فورن أفيرس لا ينطلق من مسوغات ربحية إذ يرجح أن ذلك مما لا يعنيه كثيرا ، والأرجح أن ينطلق من مسوغات تتأرجح بين السياسة والأيدولوجيا ، وهما مما تضطلع به هذه المجلة ذائعة الصيت والمعلوم أن هذه المجلة خرجت أو شاركت في تخريج أساطين السياسة الخارجية الأمريكية ، فجورج كنان ، وهنري كيسنجر، وبيرزنسكي وشولتز وأولبرايت وغيرهم كثير ممن أبرزتهم هذه المجلة ، وعرفت بأفكارهم ، فلماذا تحتفي بهنتغتون دون هؤلاء علما بأنه ليس بأعمقهم ولا أعلمهم؟!
إن ذلك التحيز المتجلي في ذلك الإعلان دال على أن التيار الفاعل والمؤثر في السياسة الأمريكية يتبنى مقولات هنتغتون لمرجحة للصدام بين الحضارات ، والمنبهة إليه ، وليس بالضرورة المتبنية له ، وإذا عطف ذلك على ما زخم به المحافظون الجدد الأجواء بتوجهاتهم المسيحية المتصهينة الرافدة لذلك التيار ، إذا تأملنا في محصلة ذلك نجده يصب بالضرورة في إذكاء مقولة الصراع والذي يستهدف الإسلام في أغلبه . ولا حاجة بنا للتذكير هنا إلى ما تنودي به غداة سقوط حائط برلين من جعل الإسلام البديل المستهدف بعد سقوط الشيوعية.
إن الحزم يقتضي منا التسليم بذلك الأمر واقع محتوم لا سبيل للفرار من مجابهته ولا يعني ذلك أننا نتبناه كتوجه ، أو موقف مبدئي عقدي يتملكنا وإنما لأن هذه هو التيار الفاعل والكاسح في أوساط السياسة الغربية وفي استراتيجياتها المتبناة وخصوصا الأمريكية منها ، ونظن أن المطالع لنزر قليل جدا من الأدبيات السياسية المتداولة هناك سواء في مراكز الأبحاث أم الأوساط الأكاديمية أم في الصحافة بكل تياراتها خلا النادر الشاذ الذي لا يؤبه له يخلص إلى أن هذا ( الصدام الحضاري ) هو التوجه الغالب في العالم الغربي.
هذا وإن المراهنة على الحوار وحده في هذا الأتون هو هروب من المواجهة للأمر الواقع ، ولا يعني ذلك إسقاط الحوار وآلياته جملة ولكن لا يعول عليه إلا قليلا وفي حيز محدود كما لا يعول عليه في المدى القريب بحال.
إن تصحيح ( القولبة ) و ( النمذجة) للشخصية المسلمة والتي سكنت الوجدان والذهنية الغربية لقرون متطاولة ليس مما يتأتى تجاوزه والقفز عليه خلال عقود من الزمان فضلا عن أن يتم ذلك في سنوات معدودات أو ( بضربة ) واحدة كما يتوهم البعض ونحسب أن حصيلة الحوار الإسلامي المسيحي- مثلا - والتي بدأت قبل أكثر من أربعين عاما تقف كشاهد مؤكد على أنه لا يمكن التعويل والرهان عليه كسبيل من السبل المعتمدة فضلا على أن يكون السبيل الأوحد ، وخلاصة القول في هذا ليس المهم اقتناعنا أو تبنينا نحن للحوار أو للصدام فمن أسف نحن لسنا من "اللاعبين" حقيقة على المسرح السياسي العالمي حتى فيها يخصنا، ومن ثم فإن الأمر ليس مرتبطا "بقناعاتنا" وإنما يرتبط حقيقة بقناعة وإرادة ( الآخر) والذي لا نرى أي دليل على تفضيله لسبيل الحوار ، ومن هنا ينبغي أن نؤمن أنفسنا على ذلك ( الصراع) الذي تنادوا به وتمثلوه وامتثلوه .فإن تنكبو ذلك الطريق ونبذوه قلنا حينها مع الباري عز وجل
والذي يهمنا فيما يتصل بورقتنا هذه أن التنادي والحشد لذلك الصراع (الحضاري) يعني أول ما يعنى الالتفات إلى مسألة العدوان الفكري إذ هي كما رأينا من قبل آلة الغرب وعدته في هذا المقام . ولعل مما يجدر التنبيه إليه أن المقدمات التي أقام عليها الغرب غزو أفغانستان – مثلا- كانت كلها مما ينتمي إلى عالم الثقافة فقد قامت حملات دعائية مكثفة من الجماعات النسوية المهيمنة في أمريكا "تحرير" المرأة الأفغانية وتخليصها من ( الاستعباد الذي آل إليه حالها على يدى "طالبان" وراقب المراقبون تلك الإعلانات المكثفة المتصلة على صفحات ال نيوز ويك تايمز وال واشنطون بوست والنيو ريببلك ..وغيرها من الصحف والمجلات السيارة والتي انكبت كلها على التنويه بالحال المأساوي للمرأة الأفغانية و الذي استعانت فيه بصور مبشعة للنقاب والحجاب ، مما جعل الرأي العام الأمريكي وقطاعه النسوي على وجه الخصوص من أكبر الداعمين لغزو أفغانستان ويجزم أنه حتى بدون أحداث سبتمبر كان الرأي العام فى أمريكا محشودا ومتحفزا لذلك الغزو من خلال تخليص المرأة الأفغانية وتحريرها !!ونعلم أن التجمعات المصالحية أو "اللوبي" المتنوع هو المساهم الأكبر فى صناعة السياسة الخارجية الغربية ،عموما والأمريكية على وجه الخصوص ، ومن هنا كان دور اللوبي النسوي والصهيوني الذي كان له نصيب الأسد فى حشد الرأي العام الغربي خلال شبكته الممتدة المترابطة فى أوربا وغربها لغزو أفغانستان .
وهذا درس يجعلنا ننتبه إلى نوعية العدوان الفكري الذي يستهدفنا والذي يعنى كثيرا بتحطيم منظومة القيم الإسلامية التي لا تستفز تلك التجمعات المصالحية من أمثال ذلك اللوبي النسوى المتصهين أقول لا تستفزه فقط وإنما تثير اشمئزازه وتغزره وسخطه بداية!!
مواقف المسلم من الثقافات الأخر مقابلا بموقفها منه:
صرنا فى الآونة الأخيرة نردد حيثيات خطاب اعتذاري تبريري ونحسب أن ذلك مما يسبق رضا العالم عنا وخصوصا القطاع المسيطر على صناعة تاريخنا أعنى الغرب ومشايعيه ومما يندرج فى ذلك المقولة المتصلة بموقف المسلم من الثقافات الأخرى والأمر الحقيق بالفحص والدرس والتأمل هو موقف الثقافات الأخرى من الإسلام وعالمه وإنسانه وليس العكس !
وتعليل ذلك عندي مرتبط بأمرين واقعين أولهما: أنه وكما للآخرين الحق فى اتخاذ موقف أو مواقف من المنظومات الإسلامية مجتمعة أو متفرقة فكذلك من حق الأمة المسلمة أن تتخذ من المواقف ما يغاير إجماع أهل ثقافة معينة أو رأى غالب عن منظومة أو منظومات مما لديها !أي لايمكن مصادرة هذا الحق فيما يتصل بالإسلام وجعله حكرا على القطاع الغربي وحده ومن لف لفه ! هذه واحدة . وأما ثاني الأمرين فهو أنه فى حين تجرد القطاع المسلم من المقدرة على إنقاذ مقولاته وإملائها يملك الغرب من المقدرة على الفعل ما يجعله مستبدا بملاءاته على عالم الإسلام ، وإن طال ذلك أقدس مقدساته واخص خصوصياته ! ومن أسف يسعى الغرب وبآلياته الإنفاذية المختلفة على تسويد (ذهنية وهن) فى قطاعنا مقتضاها جعل كل مسلماتنا فى حال مثول مستمر أمام المدعى العام الغربي ، والحالة فى حقيقتها تشه تحول القطاعات الغربية كلها إلى حال مدعي عام يلقي بأسئلة تحقيقة حول مختلف المنظومات الإسلامية مع فارق أساسي: تحيزاته وأحكامه المسبقة ، والقاضية بتجريح المتهم متى وقبل التحقيق معه ! ولا أظننا نجد فى تاريخ بنيالإنسان سابقة كهذه ! والأمر المريع حقا هو أن ذلك الروح المشار إليه يشق طريقه كبديهة من بدهيات حياتنا العقلية بزعم الروح النقدي غير المستثنى تارة وكاشتقاق منطقي لما يسمى بحرية التعبير تارة أخرى.
وقد حدث لصاحب هذه الورقة واقعة مؤسسة على ما أشرت إليه ففي أحدى الحوارات التلفازية سألتني مقدمة البرنامج عن مبررات تعدد زوجات المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ومن عجب أن موضوع الحلقة كان متصلا بمولده أو هجرته صلى الله عليه وسلم ! و وجدتني مضطرا للقول بان هذا سؤال غير ذي موضوع إذ أن المدعى عليه غير موجود ولا يرجى عودته إذ غيبه الثرى أكثر من أربعة عشر قرنا ! ثم إن هذا سؤال لا ننطق به أصالة وإنما تنطق به وكالة وإن أوهمتنا سمادير عصر انحطاطنا الأعظم إنه سؤال أصيل ! وليتنا نعلم أن عمر هذا السؤال جاوز القرون إذ طرحته الكنيسة قديما ، وهى تنقب فيها توهمته مثالب تطال المقام النبوي .
ثم بيننا كمسلمين لا يتصور أن نضع رسولنا صلى الله عليه وسلم فى موضع مساءلة لاسيما فى أمر أقرته السماء . ولا أحسب أن كائنا من كان ولو كان
بنو الإنسانية على مر عصورها مؤهل لمساءلة تبوح باتهامها للمعصوم صلى الله عليه وسلم ، إن الجهة المخولة بمساءلته هي الذات العلية جلت وتقدست أسماؤها
إنني أذكر هذه الواقعة كشاهد على حقيقتين ( ذهنية الوهن) التي تشق طريقها فى قطاعنا الحضاري القاعد ، وحقيقة ما بلغته موجات الغزو الثقافي من التغلغل والتمكن فى أوساطنا بدرجة توهمنا معها أن مسائلها ومساءلاتها هي بالضرورة مسائلنا ومساءلاتنا!
والأمر الأهم والجدير بالتفكر والدرس المتصل أن نعرف أن حيثيات خطط المعارك الجديدة المتصلة بالحرب الاستئصالية القائمة والقادمة على عالم الإسلام تعتمد فى اغلبها على تسعير هذا الذي نسميه العدوان الفكري كما بينا ذلك من خلال مقدمات الحرب على أفغانستان ولو اتسع المقام لسمينا المعارك والحملات القادمة علينا بأسمائها. وجلها أو كلها تدور في مدارين :حقوق الإنسان، وحقوق المرأة ولله الأمر من قبل ومن بعد.
كانت حقبة الاستعمار الأولى في فترة الغرس والتأسيس لمقومات وآليات العدوان الفكري إذ سقطت مقاليد التوجيه كلها كما يقول العلامة محمود محمد شاكر – في أيدي أعدائنا فانفسح لهم المجال ليعيدوا صياغة الإنسان المسلم ، وفقا لما يشتهون.
ولا أريد أن أكرر القول المعلوم فيما اضطلعت به أنظمة التربية والتعليم ، أو صيغ التشريع أو مناهج الاقتصاد أو الصحافة والمسرح والسينما والتلفاز وما إليه فكل ذلك معلوم مفهوم ولا جديد في إعادته إلا من حيث الإشارة للاستحداث والتنويع لأساليب وآليات الافتراس .
وإنما الأمر الحقيقي بالإثارة والتنبيه ما سماه العلامة الراحل محمود محمد شاكر – التفريغ الثقافي- وعنى به إفراغ أبناء هده الأمة وخصوصا من خلال المدرسة الغربية والجامعة الغربية التي استنبتت في أوساطنا من كل المقومات التي تقوم عليها هوية الإنسان وشخصيته الثقافية ، وعملية التفريغ تلك أفضت إلى نتائج خطيرة ويجب علينا تفحصها والتأمل في مناهجها كثيرا ، ولعل ما تتوجت به عملية التفريغ الثقافي إفرازها إلى ما يمكن الاصطلاح عليه بالكائن اللاتاريخي ونعني به الإنسان الذي غيب عنه تاريخه الأم واقتلع من دينه اقتلاعا فما عاد مدركا لدروس ماضيه ولا مختزنا لتجاربه الخاصة به أو المتصلة بعدوه فأصبح كالذي فقد ذاكرته وتفلت منه القدرة على التمييز أبدا !
ونتيجة أخرى لا تقل سوءا هو أن النخبة الأولى التي مورست عليها عملية التفريغ الثقافي في أبشع صوره صارت هي الطليعة في مسألة الاستقلال بل والأمينة عليه، وانتهى الأمر بأن صارت هي القائمة بأمر الأمة بعد الخروج الشكلي للاستعمار.
وما لا نفطن إليه هو أن مشروع الاستقلال ومن خلال تلك النخبة صار فحواه وحقيقته قائمة على إرث التفريغ الثقافي ليس ذلك فقط بل اندفعت عملية ذلك التفريغ بدرجه عزل فيها أحد زعماء الاستقلال وزيره الأول بماذا ؟ بجريرة أنه سار في التعريب أكثر مما ينبغي ! ( انظر مذكرات محمد مزالي )
مثلت في الفترة الأخيرة ظاهرة تستحق التوقف الطويل والمداولة السافرة الجريئة والمجابهة التي لابد منها تلك هي ظاهرة الحديث المكثف عما يسمونه بالمجتمع المدني وما زامنها أو تفرع منها فيما عرفناه بالمنظمات الطوعية غير الحكومية.
ودون وقوع في أسر العقلية الاسترجاعية التي تغرس نفسها بمحاولة تظاهر بالأسبقية الدائمة بادعاء الوجود القديم ، وكل جديد يطل عليها ، فإننا نقول سواء عرفنا ممارسة سابقة مضاهية لما يسمونه بالمجتمع المدني أو لم نعرف إلا أن الذي لا مراء فيه هو أن المجتمع المدني المتحدث عنه الآن له أصوله وفهمه المغاير لما عندنا وممارسته المنبثقة عن تلك الأصول ذلك الفهم يجعله أيضا شيئا مغايرا لما عرفناه وعهدناه مما يشابهه في أوساطنا.
ولعله إذا أصبنا الفهم يقصد بالمجتمع المدني والتبشير المكثف في أوساطنا الإنباء عن معلم جديد متصل بتفكيك الدولة هو من مقتضى العولمة كما يؤكدون : وبحكم ذلك المنطق فإن المآل في تسيير أمور الدولة سترثه جماعات ومنظمات المجتمع المدني ، وليس مستنكرا بحال أن تطل صور جديدة للفاعلية والتفاعل الاجتماعي فإن لكل نقلة زمنيه أشكالها وآلياتها وصور إنقاذها الجديدة غير المعهودة فيما سبقها ، وإنما المستنكر هذا اللبس والالتباس المتعمد والذي تتولى كبره النخبة المنشأة على الهوى الغربي والمفرغة تماما من ثقافتها الأم بل والنابذة المتقززة من كل ما يمت إلى تلك الثقافة بصلة هذه الفئة التي كان أغلبها مهاجرا في الغرب وكثيرا منهم يحملون جنسيات غربية هبطوا فجأة علي أوطانهم السابقة ثم بدأوا في تكوين هذه المنظمات الطوعية .
وثانيه أنوه بعدم رفضنا للأشكال والصور الجديدة ما تأكد نفعها وخيرها لكن الأمر المؤكد هو أن كثيرا من هذه المنظمات الطوعيه تغلب أجندتها الخارجية على أجندتها المحلية وقد صارت من ثم من أخطر وسائل إنقاذ العدوان الفكري ليس ذلك فقط بل إن التمويل الكامل أو الجزئي لهذه المنظمات يأتي مباشره من أمريكا أو دول الإتحاد الأوربي ،هذا من الأمر الظاهر المعروف ، وأما وجوه التمويل الخفية من مصادر مخابراتية أو صهيونية فربك الأعلم بها! ، والذي صار باديا للعيان أن مجموع أجندة هذه المنظمات يعني عزما وتصميما على تمزيق ثقافتنا الأم إربا إربا ، لاسيما وأن الإعلام وخصوصا من خلال الفضاء القناتي صار مكونا بحيرة لمناخ الوحي الفكري والأخلاقي معا فضلا عن مكونات الخور الأولى التي أفرزتها موجات الغزو الثقافي السابقة .
هذا وإن الأمر الحقيق بالتأمل هو أن أقل بكثير من مثل هذه الممارسات والسلوكيات كانت تدمغ وإلى وقت قريب بالخيانة والتجسس والعمالة الأجنبية أما الآن ومع تجاوز تلك الصور السابقة بكثير من خلال هذه المنظمات التفكيكية فإنها تنال حق التسجيل وذلك إقرار بشرعيتها أما الأدهى والأمر من ذلك أنها مباح لها أن يأتيها التمويل الغربي تحت سمع وبصر السلطات دون حجر أو تضييق بل وبلا أدنى مساءلة!
وإزاء كل هذا الواقع الغريب في وقائعه وتفصيلاته برزت طبقة من المرتزقة الأنيقة ترطن بلغات أجنبية ، وتحمل الألقاب العلمية والأكاديمية ، وخولت لنفسها أن تدمغ منابع ثقافتنا بما شاءت كيف شاءت بل منحت نفسها حق "الفيتو" على كل ما تلزمها أجندتها الأجنبية بفعله ، وكأننا بذلك قد سلمنا لهذه الفئات بأن تستبيح حمانا بما شاءت وكيف شاءت وأسبغنا المباركة على كل ممارساتها التفويضية التفكيكية .
والمأساة الكبرى هي في هذا الإغواء الذي تمارسه هذه الفئات ومنظماتها لجيل الجديد من شبابنا بجنسيه . إغواء يوافق خواء فكريا وروحيا مريحا يستخدم ما لا قبل لتلك الفئات من شبابنا بمقاومته من مال وسفر ورفد بشهرة ،وحبال من الشهوات لا حصر لامتدادها .
ومن هنا وفي الخلاصة فإن طامة ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني هي ولا ريب أخطر وأبشع آليات الإنفاذ العدوان الفكري في هذه المرحلة الفاصلة من تاريخنا ، وإنها لمما يستدعي دراسات مفصلة متصلة وتقصيا عميقا وقبل وبدء وبعده مجابهة شاملة سافرة لا تتردد وقبل فوات الأوان.
عديدة هي الآثار لذلك العدوان الفكري الممتد والمتطاول على أمة الإسلام ، وليس من واجب هذه الورقة ولا من تطلعاتها الحصر الشامل الدقيق لكل أثار ذلك العدوان فهذا مما لا يتأتى من خلال الحيز والإمكان المتاح.
ولكني أريد أن أحصر الحديث في هذا الجانب حول أمرين اثنين أخالهما من الأهمية بمكان كما أنهما يستحقان انتباها وتوفرا خاصا في الرصد والدرس والتوعية .
والأمر الأول :هو الأكبر والأهم بحسبانه الرحم الذي تخرج منه كل تلك الآثار جليلها وحقيرها وهو :
ونعني بها النفوذ النفسي والأدبي المعنوي الذي استنبتته موجات الغزو الثقافي المسابقة في أعماقنا وأشكال الغلبة والسطوة التي ملأت بها الحضارة الغربية نفوسنا وشحنت به أجواءنا .
وقد نعلم أن لكل عصر حاكميته الحضارية من حيث الحضارة السائدة في أوساطه والمتحكمة فيه والتي قد تلزم بإملاءات وتوجهات لا تجد لفئات الأضعف مناصا من الاستئصال لها والالتزام بها . كل ذلك معروف مفهوم ولعلنا جميعا نستحضر الفصل النفيس الذي كتبه عبقري الحضارة الإسلامية بتفرد عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته بأن المغلوب مولع أبدأ بتقليد لغالب فيما ساقه وفصله وعلله. ومما يلفت النظر أن ابن خلدون وفقا لذلك التحليل وتلك الرؤية انتهى إلى التنبؤ بسقوط الأندلس بل حدوثه بزمان طويل!
ولو عاد ابن خلدون اليوم لذهل مما بلغته الحاكمية الحضارية الغربية في أوساطنا ولأعاد كتابة مقدمته وفقا لهذا المقتضى الجديد !! ذلك أن الحاكمية الحضارية التي عاصرها ابن خلدون وقاس عليها كانت حاكمية محدودة .
نعم فيها الأساس والتأسيس للحاكمية الحضارية الغربية التي نعاصرها ولكن يقينا أنه لا وجه للمقابلة بين وجهيها أو طورها الأول الذي شاهده ابن خلدون وحكاه وطورها الأخير الذي نعاصره ويعصرنا عصرا في كل مناحي حياتنا : في معتقدنا وما ينبثق عنه من تصور للكون والإنسان والحياة، ومن منظوماتنا المنبثقة عن إسلامنا والزامات تلك المنظومات في الاجتماع والاقتصاد والتشريع والتربية والأخلاق ... الخ . بل وفي صور المأكل والمشرب والملبس وطرز العمران لا بل وحتى في العادات والسلوك والقيم ، بل أكاد ازعم أن ذلك النفوذ تغلغل حتى إلى أذواقنا الجمالية وأحاسيسنا ومشاعرنا الخاصة ولتلق نظرة عابرة على الروايات المتحدثة عن " الحب " ثم عد إلى نموذج " الحب " عند ابن حزم مثلا وتأمل في الأخدود الواسع العميق الذي صار يفصل بين مثالنا الأم ومثالنا المستعار !!
هذا وإن هذه الحاكمية قد شكلت قاعدة لما يمكن الاصطلاح عليه بالانهزام ألاستباقي قياسا ومقابلة بالحرب الاستباقية التي صارت عقيدة جديدة للاستراتيجيين الأمريكيين ، وهو انهزام إذا تتبعته لا يكاد يسلم منه ميدان ! حتى ميدان الفتوى والتشريع والاجتهاد صار متأثرا بدرجة أو درجات على ذلك المنوال .
كما تمخر البوارج الأمريكية والأوربية في بحارنا كذلك تمخر بوارج أخرى في عقولنا ونفوسنا ووجداننا ! وهي التي تشكل القاعدة لذلك الانهزام الاستباقي الذي صرنا نتهافت عليه تهافت الفراش على النار .
هذه الحاكمية الحضارية الغربية بذلك التغلغل ودرجة السريان تلك هي التي تسقط كلامنا من الداخل وهي التي " تخمر " نصر الأعداء وقبل إطلاقهم لرصاصة واحدة ، وإن كل صور التطاول الصفيق على كتابنا الكريم وعلى رسولنا الأمين صلى الله عليه وسلم والانتهاك المتعمد لكل حرماتنا من قبل القوى الغربية في أشكالها الرسمية والشعبية ، هو من كسب هذه الحاكمية الحضارية الغربية والتي يرصد خبراء الصراع الفكري تفاقماتها ويقيسون درجات استفحالها ليحددوا مع غيرهم من المختصين في القطاع الغربي برامج ومواعيد الضربات القادمة علينا هذه الحاكمية التي تساهم كثيرا في سلب وعينا واستقلالنا الإدراكي أقصر وأنفذ الطرق لتفويض المرجعية الإسلامية الأم في مختلف منظوماتها وفي شتى تفاصيلها ومن ثم وجب العكوف على مدارستها والتعرف على تفاصيلها حتى يتسنى لنا تعبير الطريق للخروج من أسرها والله المستعان .
الأمر الثاني : الدراسات النسوية الممثلة لمقولات حركة الفمنزم (النسوية):
الفمنزم (النسوية) هي الطور الأخير الذي آلت إليه حركة تحرير المراة الغربية .وما يميزها عنها أنها أعلت من النزعة الفردية الأنثوية بحيث جعلت منها نوعا بشريا جديدا له خصائصه وتوازنه وتصوراته التي تميزه عن الأنواع البشرية المعهودة من ذكر وأنثى . وهي فيما تنادي به – وخصوصا في حكمها المتطرف لا تنبذ الأسرة ومؤسستها فقط بل تنبذ الأمومة وتصورها كشكل من أشكال الاستعباد للمرأة ! لا بل وتنادي وتلزم بالمشراعات الاجتماعية والأخلاقية الشاذة وتجعلها إطارا أسريا جديدا شق طريقه للاعتراف به وإسباغ الشرعية عليه في كل المجتمعات الغربية تقريبا، وبمباركة من الكنيسة هناك بل إنه يشق طريقه في أروقة الأمم المتحدة لجعله صيغة " عالمية " ملزمة لكل بني الإنسان ممن انتظم أو لم ينتظم في الأمم المتحدة .
الأمر الذي يهمنا دون أن تساق في الإسهاب والتفصيل أن نفرا من القطاع النسوي المسلم الذي جعل من الغرب مهجرا ووطنا دائما تأثر بذلك التيار من موجة الفمنزم المتطرفة واعتبر نفسه طرفا أصيلا فيها وتنادى بتكوين ما أسماه حركة الفمنزم الإسلامية !!
ومن الأسماء المعروفة في تلك الحركة السيدة أمينة داوود نادت بإمامة المرأة للرجال في الصلاة ، وطبقت ذلك في تظاهرة إعلامية شهيرة .
والصحيفة المتمرسة الآنسة نعمات التي تفاخر بحجها ومعها ابن السفاح الذي تجاهر بالتعريف به ، والذي أسمته شبلي تيمنا بجدها العلامة شبلي النعماني صاحب التصانيف المتفردة وخصوصا في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم هاتان السيدتان دعتا إلى مؤتمر عالمي للمصادقات على حركة الفمنرم " الإسلامية " عقد دورته الثانية بأسبانيا تحت رعاية حكومتها ! وكأني بنا أمام حركة استرداد ثانية برعاية أسبانيا تستهدف الإنسان بعد الأرض وخصوصا من خلال المرأة المسلمة تناغما مع الدور التاريخي المشهور لأسبانيا في اقتلاع الإسلام واستئصاله من الأندلس فيما يعرف في تاريخ الغربي بحركة الاسترداد.
وهذا المؤتمر العالمي الذي لم نرقبه عن كثب بل تغافلناه جاهلين أو متعمدين .
وطائلة الإتهام للفقه الإسلامي تزيد على ما وجه لتفسير القرآن ! وهو من ثم حقل ينبغي تسريع الجهود والاجتهادات فيه وفقا لذلك المنظور الفمنرمي أيضا . وسياق التاريخ الإسلامي وتفسيراته ينبغي تنقيتها أيضا من التحيزات الذكورية وإعادة صياغتها وفقا للمنظور الفمترمي ! بل حتى اللغة العربية ( وصمت ) بأنها لغة ذكورية تجعلها تحت طائلة الاتهامات نفسها وإطلاق الأحكام عينها!
إننا إزاء زلزال ثقافي بكل ما تعني الكلمة . وقد يحسب عالم النظر والرأي عندنا أن هذه ترهات لايمكن أن تشق طريقها مهما أوتيت من قوة ولكن من أسف لا يزيد هذا عن أمنيات العقول الكسالى .
إن الذين يحسبون أن هذه أطروحات ومقولات عابرة أو مجرد مزايدات عليهم أن يعيدوا النظر فيما يقولون . فهذا التيار قد بدأ يشق طريقه -وما طرأ من تعديلات علي مدونة الأحوال الشخصية في بعض من بلاد المغرب وخصوصا في إباحة الزواج بغير المسلم من إنتاج ونتائج ذلك التيار .
ومصطلح ( النوع ) والذي هو ترجمة متعمدة للرداءة والالتباس لمقولة "الجندر" وتابعه مصطلح "تمكين المرأة " وما يرافقهما لا يعني مجرد مثول مصطلحات لغوية جديدة بقدر ما يعني إعادة صياغة للمجتمعات والأفراد بما يتوافق والتمهيد للاستئصال الكامل أما أخطر ما يمثل فيها يحقق مرادات ذلك التيار وأمانيه فهو الإطلال غير البهيج لما يسمى ( بالدراسات النسوية ) على المستوى الجامعي وفوق الجامعي في عدد من الجامعات المحلية . وتلك الدراسات النسوية نسخ حرفي للمقررات الدراسية في الجامعات الغربية ، وعندنا في السودان قسم تابع لأحد الجامعات يقوم علي نظام توأمة بينه وبين تلك الجامعات الهولندية فلا يكاد يتعدى منهجها ومقرراتها في كلمة أو حرف . ومعلوم أن مغزى تلك التوأمة يعني أن تكمل هولندا ما عجز السودان عن استيفائه من
( الكمالات ) الفمنزمية عبر منح أكاديمية وإقامة قصيرة أو طويلة في رحاب المعايشة الحرة والحارة لحركة الفمنزم مقالا وفعالا .
وعلي عادتنا المعروفة نحن لا نقوم بدرء الأزمات واحتوائها مسبقا هذا أمر من الاستحالة بمكان في رحابنا . وانتباهنا للأزمات لا يكون إلا بعد مثولها وانفجارها ! أما أن نقوم بالرصد والتحسب وإحصاء الأخطار واستشراف النتائج ونصل إلى سياسة حازمة متصلة بذلك فهذا شئ بعيد –بعيد!
إننا وعلى غرار ما حدث لنا فى جامعاتنا المنسوخة نسخا مشوها من الجامعات الغربية قامت أقسام وكليات فى الدراسات الاجتماعية وما اتصل بها وكان لخريجيها و خريجاتها النصيب الأوفر فى حركة التفريغ الثقافي الممتدة فى كل عالمنا الاسلامى وقد بدأت تلك الأقسام فى أطوارها الأولى كدوائر باهتة لا ينبئ حالها عن استشفاف أثر ذي بال . ثم سارت فينا سنن الله الكونية التي لا تستثني ، فبزغت تلك الدوائر و ترعرت واتسعت وانتشرت وصارت شبكة منتظمة لكل عالم الإسلام لتمكن العلمنة الشاملة - للنخبة على الأقل لتغدو مقولة الشريعة من بعد طريدا مستبعدا فى كل عالم الإسلام.
ولا نقول : ما أشبه الليلة بالبارحة ! فليلنا الذى نعاصره اليوم مختلف كل الاختلاف عن (ألبارحتنا) إن صحت الكلمة – التي عهدناها . فكل الدلائل تؤكد على اعتماد استراتيجية ( الهيمنة السريعة ) فى كل مجال حياتنا !انظر كيف تمت عملية
( الخصخصة) لاقتصادنا والجحيم الذى يتلظى به المسلمون حتى فى الدول البترولية . بين ليلة وضحاها تضاعفت أسعار كل الأشياء وتأمل كم كانت تعريفة العلاج والدواء فى رحابنا قبل سنوات معدودة وكم صارت الآن ونقل النظر فى التعليم والسكن والتنقل ناهيك عن الأكل والشرب.
والذي تم في السياسة وخصوصا ما يتصل بإعادة صياغة إنسان الإسلام ليس ببعيد عن ذلك . وما تم ويتم فى الإعلام وما يشق طريقه فى التربية والتعليم كله متوافق مع مقولة الهيمنة السريعة وفى كل الصعد لمن رصد وأحصى وتأمل.
وإن الذى تم ويتم سواء فى تيار الفمنزم "الإسلامي" أم فى حقل ((الدراسات النسوية)) لن يسير على ذلك المنوال ! بل سيتجاوزه كثيرا فى الخطو والسرعة فنحن هنا إزاء استراتيجية (سوبر) فى ((الهيمنة السريعة)) وبما يتجاوز إدراك واستيعاب السواد الأعظم منا على مستوى النخبة ناهيك عن متوسطي الثقافة والعوام.
إن مما يفوتنا دائما أن المؤسسات الغربية بينها من التفاهم ، فى تطبيق الاستراتيجيات المتصلة بعالم الإسلام –والتناغم والتنسيق والانسجام ما لا يخطر معشار معاشره لنا بحال ! إنه لا تكاد توجد حدود فاصلة بين عمل الأكاديمي وأداء الدبلوماسي ورجل المخابرات والناشط أو الناشطة فى منظمة من منظمات الإغاثة أو التنصير أو العون الإنساني فضلا عن التغطية المباشرة من الأجهزة الرسمية والحكومات إن اقتضى الأمر!
وإن تلك "العبقرية" لتتجلى أكثر ما تتجلى فى الدعم والدفع غير المحدود بحركة الغمترم فى عالم الإسلام كله بلا استثناء . وعطفا على الدراسات النسوية سنجد عما قليل أنها انتظمت فى كل جامعاتنا ورفدت "بمنح "للدراسات العليا لا تحصى فى مختلف الجامعات الغربية . ثم بعد وقت قليل تفاجأ بجيش عرمرم من حاملات الدكتوراه بل ودرجات الأستاذية ويكون مزامنا لذلك دفع حركة التمكين للمرأة بإلزام حكوماتنا بحصص معينة فى المجالس التشريعية وغيرها تحتلها شخصيات من ذلك الجيش العرمرم . وقد نلزم أيضا بجعل مقولات الغمترم جزء من المقررات الدراسية فى المدارس والجامعات ثم تتصلمد حركة التأليف الروائي وغير الروائي فى الأوساط النسوية المنفعلة بذلك وبالطبع تفرض أجندة أولويات جديدة مبتغاها إعادة صياغة المجتمع والإنسان المسلم وفقا لتلك المقولات.
إن الذى نرجوه ونأمله إزاء التحدي الاستئصالي أن ينتفض عالم النظر والفكر عندنا ويتدارس هذه الموجة الجديدة مدارسة دقيقة ويرصدها رصدا متقصيا ويسعى سعيا جادا لا يجاد حركة استئصال مقابل واقتلاع لا لهذا التيار وحده وإنما لكل المنظومات الغربية الاستئصالية التي عبرت الطريق ومهدته لهذا الحال المريع الذى كل بنا .
إن السلاح الوحيد والمفيد الذى يمكن أن يدرأ عنا هذه الأخطار بعد الثقة بالله وإحسان التوكل عليه . أن تضاعف درجات الوعي بهذه التحديات وأن نعرف الأمة بكل فئاتها بهذه الأخطار المحدقة ، بنا هذا الدرع الواقي هو الأمر الأهم الذى ينبغي أن تتكاتف الجهود عليه فى صد هذه الموجة مع نبذ كامل لكل صور الوهن و الحزن مع اليقين التام فى نصر الله الموعود .
وأنا اختم هذه الورقة التي أرجو ألا تكون قد طالت يهمني أن أشير إلى ظاهرة وأنبه إلى نهج تلافيها . أما الظاهرة وهى شيوع وهن مصاحب بروح من الاستسلام لما يسمى بالأمر الواقع وخصوصا فى أوساط الاجتهاد والنظر . فقد أخذ يشيع من جديد نمط من الروح الإعتذارى التبريري الذى شاع إبان الحقبة الاستعمارية وماتلاها فى عرض الإسلام ونظمه وشرائعه . وقد خلنا أننا عوفينا من هذا وودعناه ، ولكن الحقبة الأخيرة وخصوصا ما بعد الحادى عشر من سبتمبر أعادت قطاعات من أهل الاجتهاد والنظر إلى مايشبه تلك الفترة غير السعيدة من تاريخ أمة الإسلام ولا حاجة بي إلى القول بأن هذا مظهر من مظاهر الغزو الثقافي فى أوساطنا . ولا نريد أن نطلق الحسرات أو نكثر الشجب ، وإنما أردنا التنبيه إليه حتى لا نعتاد الوهن .
ودون خوض فى أي تفصيل أنوه بنهج أحسبه ناجحا فيما نحن بصدده ألا وهو تجديد الشعور بالاجتباء وإشاعته فى أوساط هذه الأمة بحيث يغدو الانتماء للإسلام أنشودة على كل لسان . نعم علينا إحياء سنة كان يمارسها صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم بجلوس منتظم يتذاكر نعمة الخروج من ظلام الجاهلية والانعتاق من ربقتها ، وكسر أغلالها وآثارها تلك السنة التى اعتمدت نهج المقارنة بين حالين ما أحوجنا إليها وما أحرانا بانتهاجها سبيلا جديدا لإخراجنا من ظلمات الجاهلية الإمبريالية الصهيوصليبية التى تحيط بنا من كل مكان حتى لا نكاد نرى أيدينا ونحن نخرجها
أحسب أنه بقدر فلاحنا فى تبنى هذه النهج . تجديد الشعور بالاجتباء نفلح إن شاء الله بإخراج أنفسنا من هذا النكس وقبل استفحاله واستعصائه على العلاج . نعم وعلينا أيضا ومع تكاثف هذه الظلمات أن نتغنى مع محمد إقبال من جديد وهو يقول :
وسفين الحق فى لجته لا يرى غيرك ربان السفين
أنت رمز الدر والياقوت فى هذه الدنيا وان لم يعرفوك
وعلى من حابنا الله بأتباعه أفضل الصلوات وأتم التسليم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.