التمكن من تغيير الواقع والنجاح في ذلك يقتضى أمران وصف الله تعالى بهما منهج الانبياء في قوله: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) ، فنسب لهم خصلتان: قوة علمية نظرية من فقه وبصيرة ونظر وعقل وفكر سديد ، وقوة عملية تحول الفكر والنظر إلى واقع وفعل مشهود محسوس . وهذه القدرة على تغيير الأفكار والتصورات والقيم وتغيير العادات والمألوفات والأعمال كلها تحتاج إلى بصيرة نافذه بطرق التغيير ومنهجه . ومن ملامح ذلك القاعدة والسنة الإلهية التى قررها قول الله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) ، وهي توضح أن تغيير الواقع وتحسين الظروف المادية التى يعيشها الناس من رخاء وأمن وصحة وتمكين ونصر وغير ذلك ، كلها لا تحدث إلا إذا أحسن الناس إيمانهم وإسلامهم وعبوديتهم لله عز وجل . ولهذا فإن التغيير الإسلامي الحقيقي هو الذي يتجه إلى تغيير تدين الناس وتزكية أخلاقهم وإحسان صلتهم بربهم ، وهذا أولى الأولويات وما يكون من اهتمام بتنمية حياة الناس المادية فهو أمر مصاحب لتزكية النفوس وإصلاح القلوب عملا بقول الله تعالى: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) . وطرق تغيير الواقع تتنوع وتتعدد حسب الطاقة والقدرة ، وحسب الظرف والحال ، وتبدأ من كراهية النفس وضيقها بالظلم والمنكرات ، وهذا واجب مشترك بين كل الناس ، وتتدرج إلى التغيير بالخطاب واللسان والكتابة والبيان والطرق السلمية المختلفة . ويحتاج التغيير باليد والقوة إلى فقه وبصر وموازنة المصالح والمضار ، تضعه في مواضعه التى شرعها الإسلام ، وتراعى في استعمال القوة العدل وحفظ الحقوق . فمنهج التغيير الإسلامي وسط بين الركون إلى الظلم ، وبين التعدي على الناس وظلمهم حقوقهم . أما الركون فمذموم من الله لقوله فيه (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) ، والركون معناه الرضا بالشئ والسكون والميل إليه والاستناد والاعتماد عليه ، وفسره اِبْن زَيْد فقال : الرُّكُون هُنَا الْإِدْهَان وَذَلِكَ أَلَّا يُنْكِر عَلَيْهِمْ . أما العدوان فمذموم من الله أيضا وفيه نصوص كثيرة معروفة ، ويكفي في الخطأ في استعمال العنف في غير محله ، ما قصه الله عن نبيه موسى حين قال: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) . وإنما ندم موسى لأنه سفك دما بريئا وهو لم يؤمر بالقتل في تلك الحال .