السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    إبراهيم شقلاوي يكتب: يرفعون المصاحف على أسنّة الرماح    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالفيديو.. لدى لقاء جمعهما بالجنود.. "مناوي" يلقب ياسر العطا بزعيم "البلابسة" والأخير يرد على اللقب بهتاف: (بل بس)    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    لماذا نزحوا إلى شمال السودان    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    مناوي .. سلام على الفاشر وأهلها وعلى شهدائها الذين كتبوا بالدم معنى البطولة    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مجلة البيان: الصومال بين الفشل الداخلي والمكر الخارجي

إن المأساة الصومالية التي تُنْهي عامها التاسع عشر في (يناير - 2010) لا تزال تراوح مكانها الذي بدأت منه قبل تسعة عشر عاماً حين فرَّ من العاصمة رئيس آخر حكومة مركزية صومالية (محمد زياد بري) في 14 يناير 1991، بل الحال أسوأ، وصور المأساة اليوم أفظع من بدايتها.
والنفق المظلم الذي يتخبط فيه الصوماليون يبدو مسدوداً لا مخرج منه، إلا أن تتداركهم رحمة الله بالضعفاء والمساكين والبهائم في هذا البلد المنكوب: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 67]
الواقع الحالي مرعب، والأخبار اليومية مفزعة:
- ثلاثة ملايين نازح في الداخل معظمهم نزح من العاصمة مقديشو إلى ضواحيها؛ حيث يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.
- نصف مليون في المخيمات على الحدود الكينية والأثيوبية في حالة مأساوية.
- الهاربون من الوضع المتردي يغرقون في خليج عدن، والبحر الأبيض المتوسط، ويهلك بعضهم في الصحراء بين ليبيا والسودان.
أما في مقديشو، فلا تزال المدافع تحصد الآلاف، وفي الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر 2009 فقط حصدت نحواً من مائة ضحية وثلاثمائة جريح. وهناك أُسَر كاملة توفيت ودفنت في مقابر جماعية، والجرحى في الطرقات لا يجدون الإسعافات ولا الأدوية، في ظل انعدام المستشفيات والرعاية الصحية، ومعظم المدارس والجامعات معطَّلة بسبب الحرب المستمرة. وبحسب إحصاءات الأمم المتحدة؛ فإن نحو مليون شاب لم يتلقوا أي تعليم خلال السنوات العشر ما بين 1997 - 2007، والجهات الإغاثية تقول: إن نحو ثلاثة ملايين شخص مهدَّدون بالموت جوعاً، وفي حاجة إلى إغاثة عاجلة.
يَحْدُث هذا في بلد حباه الله بأوفر الحظ والنصيب من الثروات الطبيعية المختلفة: من أرض زراعية تبلغ مساحتها نحو 8.1 مليون هكتار، تكفي لإطعام 142 مليون من البشر، بينما لا يتجاوز عدد السكان 8 ملايين، وفيها نحوٌ من 6 ملايين رأس من الإبل (أكبر عدد في العالم على الإطلاق)، و30 مليون رأس غنم، و20 مليون رأس بقر، يخترق أرض الجنوب نهرا (جوبا وشبيلي). ويتمتع الصومال بموقع إستراتيجي في القرن الإفريقي وبأطول ساحل في إفريقيا كلها؛ فطوله يبلغ 3300 كيلو متر؛ حيث يُشرِف على سواحل المحيط الهندي ومدخل البحر الأحمر والخليج العربي؛ ولذلك يكون من أكثر ممرات العالم ازدحاماً، ويمكن أن يُنتج 300 ألف طن من الأسماك و20 ألف طن من الجمبري، ولكن في ظل انعدام الدولة تُنهَب هذه الخيرات وقد أثبتت الأمم المتحدة أن هناك أكثر من 700 سفينة صيد تصطاد الأسماك بصورة غير شرعية، ودول السوق الأوروبية وحدها تسحب من السواحل الصومالية ما قيمته 300 مليون يورو، هذا إلى جانب البترول والمعادن المختلفة، ولكن الصوماليين محرومون من هذه الكنوز والخيرات، بسبب عقوبة الخلافات والحروب وعدم التوفيق، ولله في خلقه شؤون.
أما الحرب الجارية بين المتصارعين على الأنقاض، فيتفق المراقبون - تقريباً - على أنها حرب لا غالب فيها ولا مغلوب، وهناك أكثر من طَرَفٍ يعمل على إضرامها والنفخ فيها كلما خبت أو قَرُب خمودها؛ لتبقى حرب استنزاف وإنهاك لكل الأطراف، ولتسهُل السيطرة عليها.
(لا غالب في الحرب الصومالية الفوضوية)
كان هذا عنوان التقرير الذي نشرته جريدة نيويورك تايمز يوم 1/6/2009 لمراسلها جيفري جتلمان. قال فيه: (الحكومة تستجدي المساعدات، وتقول: إن زيادة القوات الدولية وزيادة الأموال والأسلحة تمكِّنها من هزيمة الإسلاميين المتشددين، غير أن الواقع أشد قتامة، وهو ما لا يريد أن يعترف به أي طرف.
الصومال أصبحت اليوم الحرب التي لا ينتصر فيها أحد، على الأقل في الوقت الراهن... لا أحد من الفصائل الحالية: (حكومة الإسلاميين المعتدلين، الشباب المتشددين، علماء الصوفية الذين يسيطرون على بعض المناطق الوسطى، حكومة أرض الصومال المنفصلة، حكومة بونتلاند شبه المنفصلة) لا أحد من هؤلاء يبدو قوياً أو منظَّماً أو شعبياً بما فيه الكفاية؛ لحسم المعركة لصالحه والانتصار على بقية الأطراف، وإنهاء العنف الذي حصد الآلاف خلال السنتين الأخيرتين فقط.
وهذا هو الواقع؛ لأنه لو انتصر أيُّ فصيل أو طَرَف خلال هذه المدة الطويلة، وحَسَم الصراع على السلطة لصالحه، لانحسرت المأساة، واستراح الناس من الحروب والصراعات المتجددة، ولكن لا الأطراف الصومالية المختلفة التي كادت أن تكون مرشحة لحسم القضية كانت مستعدة تنظيمياً وسياسياً لذلك، ولا الأطراف الخارجية كانت راغبة في هذا الحسم، ومن ثَمَّ تَوافَق الضعف والفشل الداخلي مع المكر والعداء الخارجي لتبقى الأمور كما هي، و يدفع الشعب الصومالي فاتورة الثمن الباهظ من دمائه، ودموعه، وبلاده وثرواته، وسيادته واستقلاله.
واقع الأطراف المتصارعة:
الأطراف المتصارعة على الركام في الصومال داخلياً في الوقت الراهن كثيرة، سواء كانوا أصحاب مصالح ذاتية تتحرك بنفسها، أو وكلاء عن أطراف خارجية يجري تحريكها عن بُعْد؛ فهناك الإسلاميون بانتماءاتهم المختلفة، ومواقعهم المتضادة، وهم أبطال الفصول الأخيرة للمسرحية المرعبة مؤدِّين أدوارهم باقتدار من جهتَي (الحكومة والمعارضة). وهناك بعض الطرق الصوفية التي تُلملِم أطرافها للبحث عن دور في المسرح؛ فقد ظهرت في الآونة الأخيرة ميليشيات مدعومة من أثيوبيا وغيرها تحمل اسم: (أهل السُّنة والجماعة)، وهناك بقايا أمراء الحرب المندحرين الذين انخرطوا في هذا السلك أو ذاك وبعضهم يستخدم لافتة أهل السُّنة والجماعة، وهناك العلمانيون الذين يعملون من خلال أُطُر متنوعة وصور مختلفة من مؤسسات مدنية وغيرها، وهناك تجار الحرب الذين كوَّنوا ثرواتهم من خلال التجارة المحرَّمة والفاسدة، ويؤمنون بمذهب المتنبي: (مصائب قوم عند قوم فوائد)، وهناك الأقاليم والمناطق ذات النزعة الانفصالية أو الاستقلالية، وهناك القبائل والعشائر المتناحرة التي تستغل وتُستَغَل، وتتقاطع مصالحها مع هذا الطرف أو ذاك، وشيوخ القبائل ذوو الولاءات متنقِّلة حسب المنافع والمغريات.
وفي طَرَف آخر - بطبيعة الحال - هناك الأكثرية الصامتة: من علماء ومثقفين وطلاب ونساء وجماهير الشعب الذين لا يشاركون في الصراع الدائر بصورة مباشرة؛ غير أنهم أكثر ضحايا هذا الصراع رغماً عنهم، وتتقاذفهم أمواجه العاتية، ورياحه العنيفة، وآثاره المدمِّرة؛ إذ لا حيلة لهم ولا إرادة تقاوم المتصارعين المسلَّحين.
اللاعبون الرئيسيون:
ويحرك هذه الأطراف الداخلية، اللاعبون الرئيسيون في الخارج؛ فالدول الغربية التي لها مصالح في القضية ليست على محور واحد وإن كانوا كذلك في الظاهر؛ فالإتحاد الأوروبي وتمثِّلُه إيطاليا لمعرفتها العميقة في الجنوب كمستعمر سابق، والولايات المتحدة، وأثيوبيا وكينيا الحريصتان بدرجة متفاوتة على أن لا تقوم للصومال قائمة مرة أخرى، ككيان إسلامي قوي ومستقل حتى لو كان في ظل حكومة علمانية، ثم إن هناك الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة التي تستثمر مثل هذه الأوضاع المأساوية، لاستمرار تدفُّق الأموال والرواتب المجزية؛ فميزانيتها باسم الصومال في هذا العام 850 مليون دولار باسم (إطعام الجائعين) وفي العام الماضي كانت 750 مليون دولار، وفي العام الذي قَبْله مثل ذلك، وبطبيعة الحال لو كانت هذه الأموال تُصرَف للصوماليين فعلاً، لعاشوا حياة مرفَّهة، ولتوفَّرت لهم المدارس والجامعات والمستشفيات، والطرق والمواصلات، ولكن حسب ما تفيد المصادر القريبة من هذه المنظمات؛ فان 90% من هذه الأموال تذهب للمصاريف الإدارية، و 5% للسلطات المحلية و 5% فقط قد تصل للجائعين في صورة ذرة صفراء وبعض الأدوية والإسعافات. وهناك عصابات القرصنة التي تُدَار من خلال شبكات خارجية تستفيد من هذه الأوضاع، وهناك القاعدة التي لها مصالحها ومنظورها الخاص، كل هؤلاء وغيرهم يلعب في الميدان الصومالي حسب مصالحه القريبة والبعيدة، وليس من مصلحته توافُق الصوماليين، أو قيام حكومة قوية ذات سيادة واستقلالية.
اللاعبون في الظاهر:
وعلى الرغم من هذه الأطراف المتداخلة؛ إلا أن أبرز المتصارعين في الساحة ممن يظهرون في الشاشة في الآونة الأخيرة، ثلاثة أطراف:
1 - الحكومة الفدرالية المؤقتة.
2 - حركة الشباب المجاهدين.
3 - الحزب الإسلامي.
وقد فشل الثلاثة جميعاً بدرجات متفاوتة حتى الآن في تقدير أوضاع الصومال الحالية ومعاناة شعبها، والظروف المحلية والإقليمية والدولية المحيطة بها، وحاجتِها إلى لملمة الكيان أولاً، وعودة النظام والاستقرار، وأهمية المصالحة والمشاركة بين الأطراف المختلفة وتنازُل كل طَرَف للمصلحة العامة المشتركة، كما لم يدركوا أن تهيئة الأسباب، وزَرْع الخلاف والشقاق، والدفع إلى الصراع المسلَّح بين الزملاء السابقين في المحاكم الإسلامية، والمنتمين الى التيار الإسلامي، مشروعٌ مخطَّطٌ له؛ الهدف الأساسي منه، تشويه سمعة الإسلاميين أمام الرأي العام الصومالي، وضَرْب الفصائل الإسلامية بعضها ببعض، وقد تحقق شيءٌ من ذلك الآن، وكذلك إضعاف الدعوة الإسلامية، وإفساح الطريق لبروز تيارات أخرى كادت أن تندثر.
لم تستوعب هذه الأطراف أن مصلحتهم جميعاً أولاً ومصلحة البلاد والعباد ثانياً تكمن في التوافُق والتصالح في ما بينهم على الحد الأدنى من المصالح المشتركة، أو يخرجون من الساحة تِباعاً في معركة يُعَد المنتصر فيها مهزوماً، بعد أن يؤدوا خدمة مجانية لعدوهم الإستراتيجي، ويدمروا بلدهم بأيديهم... لم يدركوا شيئاً من ذلك واندفعوا إلى الصراع مع أنفسهم بهمة ونشاط.
الحسابات الخاطئة:
لقد وقع كلٌّ من الحكومة المؤقتة من جهة ومعارضوها من الشباب والحزب الإسلامي من الجهة الأخرى بحسابات خاطئة أدت إلى خسارة الجميع؛ فالمعارضون لحكومة الشيخ شريف سيطر عليهم الاعتداد بالنفس، وأنهم سادة الميدان، ويسيطرون على معظم أقاليم الجنوب، وأنهم أسهموا على الأقل بالجزء الأكبر من حملة مقاومة الاحتلال الحبشي، وهذا كله صحيح إلى حد كبير، وكان لا بد للطرف الآخر أن يقدِّر لهم ذلك، غير أنهم في المقابل لم يحسبوا حساباً جيداً اعتبارات السياسة المحلية والإقليمية والدولية، وأوضاع البلاد المأساوية، والأطماع المحيطة، وأنهم لا يعيشون في جزيرة نائية أو في كوكب آخر، وإنما في عالم متشابك المصالح، لا بد فيه من التعامل مع المتناقضات بما يحقق مصلحة البلاد والعباد ويدفع عنها المفاسد والمضار، ولذلك أدى بهم التصلب في المواقف، ورَفْض المصالحات ووَقْف النيران والجنوح إلى السلم مع الحكومة رغم كل الملاحظات عليها حفاظاً على المصلحة العامة، أدى بهم ذلك إلى التقاتل في ما بينهم على ميناء كيسمايو وإقليم جوبا السفلى، وتوتُّر العلاقات بين الشباب والحزب في كل البلاد.
وفي المقابل؛ فان الحكومة سيطر عليها الاعتداد بالاعتراف الخارجي، ودعم ما يسمى: (المجتمع الدولي)، وأنها المسؤولة عن إعادة الأمن والنظام والاستقرار إلى البلاد، وأن المعارضة ينبغي أن تأتي وتُسلِّم للحكومة المعتَرَف بها، وعلى الجميع أن ينقادوا بمجرد اختيار الحكومة، واعتراف الأمم المتحدة بها، وأن من عارضها يكون خارجاً على القانون، ويجب دحره بدعم المجتمع الدولي، وأن مِنْ حقها أن تستقدم قوات أجنبية أو من شاءت من الدول؛ قريباً كان أو بعيداً، حتى لو كانت إثيوبيا التي غزت الصومال وجوبهت بقوة السلاح من الشعب الصومالي على مدى سنتين قبل اندحارها.
وهذه أيضاً أمور قد يُسلَّم ببعضها وكان على الطرف الآخر أن يُقدِّر ذلك للحكومة المؤقتة ويعطيها الفرصة ويتحاور معها حول الأمور المشكلة من أجل الحفاظ على المصلحة العامة للأمة، غير أنه فات الحكومة أيضاً أن تقدِّر وتحسب حساباً دقيقاً أنها لا تملك في الميدان أرضاً تمارس فيها سلطتها، وتُثْبِت فيها نفوذها، وأنها لا تملك جيشاً تضبط به الأمن، وتُخضِع به رقاب المعارضين، وأن من تنفي عنهم الشرعية من المعارضين قد يكونون مساويين لها في القوة، أو أكثر منها: (أرضاً ومالاً وسلاحاً وجنوداً)، وأن الاعتراف الخارجي ليس سوى الجزء الأقل من الشرعية الكاملة لأي حكومة، ولأي سلطان، ومن ثَمَّ كانت نتيجة عدم القراءة الصحيحة لواقعها أن تظل ما يقرب من عام محصورةً في القصر الرئاسي، والعالم كله يشاهد ذلك. والغرب أو المجتمع الدولي الذي اعتمدت عليه يلومها على أنها لا تسيطر على الأرض، ولا ترى من العاصمة إلا مناظر قليلة؛ إذ (يجلس الشيخ شريف خلف مكتبه ببدلة أنيقة، وغطاء الرأس، ونظارات طبية، وساعة كبيرة يبدو أنها غالية الثمن... إنه محاط بالأعداء، ويحرسه على مدار الساعة جنود أوغنديون يخيمون خارج بابه، وفي المناسبات النادرة التي يغادر فيها القصر يأخذونه إلى المطار بناقلة جند مدرعة، اللقطات القليلة التي يراها من شوارع مقديشو الترابية تكون من خلال نافذة سميكة 2 بوصة مقاومة للرصاص)[1].
(يقول صوماليون كثر: إن الشيخ شريف يرتكب أخطاء الرؤساء السابقين نفسها بإضاعة الوقت في ركوب سيارات المرسيدس في عواصم العالم بدلاً من العمل في شوارع مقديشو وصُنْع التحالفات والتأييد المحلي لحكومته)[2]. (حكومته (أي: شيخ شريف) لا تسيطر على أكثر من عدة شوارع في بلد بحجم ولاية تكساس، بينما يسيطر على معظم الباقي الجماعات الإسلامية المتشددة)[3].
هيئة علماء الصومال:
لقد أولى علماء الصومال أهمية كبيرة للقضية وتنادَوا في اجتماع حافل في مقديشو، اجتمع فيه أكثر من 60 شخصية وأصدروا في نهاية بحث ومناقشة مستفيضة للأوضاع قرارات حاولوا فيها تجنيب البلاد مزيداً من الحروب والدمار والدماء، آخذين بالكليات قبل الجزئيات، تحصيلاً للمصالح الجماعية قبل الفردية، وتقريراً لكبريات المصالح قبل صغارها، وتحملاً لأدنى المفاسد باتقاء أعلاها، ولكن مع الأسف لم يُسمَع لقول العلماء ولا لنصائحهم، ولم تُقدَّر حق قَدْرِها، وكذلك الحال بالنسبة لنصائح ووساطات العلماء من العالم الإسلامي، الذين سَعَوا للإصلاح بين الأطراف، ولكن دون جدوى، فكانت النتيجة ما حصل بعد ذلك من حروب وكوارث ودماء وأشلاء، زادت من مأساة الصوماليين وجراحهم، وتسلُّط الأعداء والمقاولين على حساب مأساة شعب فقير وبلد مدمَّر.
المستقبل المنظور:
الله وحده يعلم كيف سيكون المستقبل القريب والبعيد، وماذا تخبئ الأيام لهذا البلد المنكوب، ولكننا لا نيأس من رَوح الله، ونأمل أن يكون الفرج قريباً مع اشتداد الأزمة، غير أن الواقع السيئ ينبئ بأنه مرشح للاستمرار في الأيام القريبة؛ فالحكومة المؤقتة لا تملك القوة الكافية للجم المعارضة وحسم المعركة لصالحها وبسط نفوذها على كل التراب الصومالي، وإن كانت تَعِد بذلك، و (المجتمع الدولي) الذي تعتمد عليه لا يريد لها أن تصبح حكومة قوية أو أن تخرج عن الاعتماد عليه حتى في حراسة مسؤولي الحكومة الكبار. كما أن المعارضة لا يُسمَح لها أن تحسم المعركة لصالحها وتشكِّل الحكومة.
هذا على الأقل في الواقع الراهن، ولكن قد تتغير السياسات، وتتحول الولاءات، وتحدث المفارقات، أو تقع المعجزات ببروز قوة جديدة ترث الأطراف الموجودة التي أصبحت تفقد كل يوم بعضاً من مؤيديها وأعوانها والمتعاطفين معها.
وإن كان صدرُ هذا اليومِ ولَّى
فإنَّ غداً لناظِرِه قريبُ
هوامش:
[1] نيويورك تايمز: 16/9/2009.
[2] نيويورك تايمز: 23/5/2009.
[3] نيويورك تايمز: 16/9/2009.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.