قال: لعلك قد ظلمت الانفصاليين فى بعض ما تقول، فهم كما تعلم لا يعّرفون العروبة تعريفا عنصريا، وإنما يشيرون بها الى أصحاب اللسان العربي، اقتداء بقول الرسول الكريم. وما ذكرته من وحدة بين العناصر الأفريقية والنوبية والعربية إبان السلطنة الزرقاء فتلك وحدة بين عناصر عربية مسلمة، لا توجد بينها الا اختلافات طفيفة فى اللسان العربى، وفى الالتزام بتعاليم الاسلام، ولكنها تنتمى فى المحصلة النهائية للعروبة والاسلام. أما الجنوب الذى يتحدثون عنه فهو جنوب غير مسلم تهيمن عليه الآن الحركة الشعبية، وفقا لبرنامج "السودان الجديد" الذى تبشر به. فاذا فصلنا شمال السودان عن هذا الجنوب، المغاير ثقافيا والمعادى سياسيا، فان الحرب المتطاولة بين شطري البلاد ستتوقف لا محالة، لأنه لن يبقى ثمة ما يقتتلان عليه، وعندئذ ستتجه الموارد البشرية والمادية المهدرة الى التنمية، وسيرتاح الشمال من الجنوب كما سيرتاح الجنوب من الشمال، فلماذا تلف وتدور ولا تواجه حجتهم هذه رأسا؟ قلت: هذا تصوير حسن لحجتهم، ولكنها تبقى مع ذلك حجة واهية. قال: كيف؟ قلت: إن كانوا يقرون بقول النبي الكريم أن العربية لسان، وأن من تكلمها فهو عربي، فهذا القول حجة عليهم، ما لم يسيروا به الى نهاياته، وهى أن التكلم بالعربية فى هذا السياق لا يعنى مجرد التكلم (وإلا لصار المستشرق الفرنسي، وضابط الموساد الإسرائيلي، والسفير الصيني عربا لأنهم جميعا يتكلمون العربية)، وإنما يقصد "بالتكلم" الانتماء للثقافة العربية. والانتماء للثقافة كما تعلم لا يكون عن طريق "المراسلة"، ولا يمهد له "بالانفصال" عن الآخرين، وإنما يرغّب فيه عن طريق المساكنة فى الأرض الواحدة، والمؤاكلة، والمتاجرة، والمصاهرة، والمناصرة، وتلكم هى الطريقة التى سار عليها الفرع العربى من ذرية إبراهيم، والذين عرفوا بالعرب المستعربة، والذين انحدر منهم سيدنا رسول الله (ص)، واستمرت الى يوم الناس هذا، وهى الطريقة التى أكسبت ذلك الفرع قدرة على البقاء عبر القرون، وقدرة على التمدد عبر القارات، وذلك على عكس طريقة "المفاصلة" التى سار عليها الفرع اليهودي من ذرية إبراهيم، والتى قادته الى ما يشبه حالة الانقراض التى نراها الآن. فكأن الانفصاليين يودون السير بنا فى هذا الاتجاه وهم لا يشعرون، ظنا منهم أن مفاصلة الآخرين ستؤدى للمحافظة على الهوية العربية الإسلامية، كأنما الهوية العربية هذه قطعة من الثلج يذيبها اللمس والاحتكاك. على أن ما يخيفني هو هذه الذهنية الأحادية المتوجسة، التى تهرع فى اتجاه فصل الشمال عن الجنوب استنادا على مقولة "إعادة هيكلة السودان جغرافيا وسياسيا على أسس التوافق السياسي والثقافي والاجتماعي"، أو طلبا للراحة من الحروب والمشاكل. ما يخيفني أنه لو آلت الأمور، لا سمح الله، لأصحاب هذه الذهنية المتعجلة فإنهم قد لا يكتفون بفصل الجنوب وحده، وإنما سيبدو منطقيا لديهم أن يفصل إقليم دار فور أيضا، وأن يلحق به جنوب كردفان والنيل الأزرق إذا لزم الأمر، فكل هذه مناطق مشكلة لأنها تضم، بحسب تصوراتهم، تشكيلات ثقافية واجتماعية مغايرة للتشكيلة السائدة فى شمال السودان، وكلها مناطق تحمل فى أوديتها بذورا من مشروع "السودان الجديد". فإذا تم للانفصاليين ما يريدون فلن يتبقى لهم من السودان بعدئذ الا "مثلث حمدي" المزعوم، وهذا هو كما يبدو مربط فرسهم، ومنتهى مشروعهم العروبي العجيب، وآية العجب فيه أنه يتطابق تماما مع مشروع "السودان الجديد" الذى يحاربونه؛ إذ قل لى بربك ماذا تريد الحركة الشعبية أكثر من أن تسعى المجموعة العربية المسلمة الى حتفها بظلفها، وأن تشرع فى تطويف نفسها بنفسها؟ ماذا تريد الحركة الشعبية أكثر من رؤية الكيان العربى المسلم ملتصقا بالشريط النيلي، أو محصورا فى المنحنى الشمالى لنهر النيل، محاطا بتحالف "المهمشين" من الجنوب والشرق والغرب؟ ولكن دعني أعود الى حجتهم الأساسية: أن فصل الشمال عن الجنوب سيريح الشمال من أعباء الحرب، وسيؤدى لتحقيق التنمية. وهذه حجة تبدو قوية فى ظاهرها لما فيها من إغراء، إذ من الذى لم يكتو بنيران الحرب، ومن الذى لا يرغب فى إطفائها جملة واحدة. ولكن دعنا نكن صرحاء مع أنفسنا، فلا نتحدث عن "حرب الجنوب" كأنها نوع من "الكتاحة"، يستيقظ الناس صباحا فيفاجئوا بالرمل على رؤوسهم ومناخرهم، دون أن تكون لأحدهم يد فى ذلك، فهذا تبسيط مخل للمشكلة، وطمس معيب للحقيقة. إن "حرب الجنوب" فى حقيقتها هى جزء من حرب أخرى فى الشمال أكثر ضراوة، وقد ظلت تلك الحرب تدور بين النخب السياسية فى داخل الكيانات العربية المسلمة فى الخرطوم منذ فجر الاستقلال، وهى حرب لن تنتهى بفصل الشمال عن الجنوب، وإنما تنتهى بأن يستعيد الشماليون وعيهم، ويعيدوا قراءة واقعهم، ويتخلوا عن كثير من أساليبهم السياسية القديمة، وقياداتهم التاريخية المنهوكة، فيتوصلوا الى صيغة راشدة من صيغ التعايش السلمى بينهم. قال: إن ما كان يدور بين النخب السياسية فى الشمال كان صراعا سياسيا عاديا، فلماذا تسميه "حربا"؟ قلت: نعم كان فى أوله صراعا سياسيا عاديا، لا تستطيع أن تفرق فيه بين المتنافسين على مقاعد البرلمان الا بأن هذا يرمز له بالفانوس، وذلك يرمز له بالقطية، ولكن مع أواخر الستينيات من القرن الماضي، طغت على الساحة السياسية فى شمال السودان أنماط إيديولوجية جديدة، يسعى أصحابها لإقصاء الآخرين و لإعادة "هيكلة" البنية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وفقا لرؤاهم الخاصة، واعتمادا على قواهم العسكرية. فترتب على ذلك كما تعلم تغير نوعى فى السياسة السودانية، إذ صار كل حزب سياسي يسعى ليكون له جيوبا فى المؤسسة العسكرية، أو يكون له "جيشا مستقلا" من خارجها، ينخرط فيه السياسيون المتعسكرون، والطلاب المتشددون، والموظفون المفصولون عن العمل والباحثون عنه، والعسكريون المبعدون من المؤسسة العسكرية الرسمية. فكنت ترى الحرب تقع بين جيش الحكومة ومليشيات الأنصار فى الجزيرة أبا عام 1970، ثم تراها تقع مرة أخرى بعد عام واحد بين جيش يؤيد الحكومة وآخر يقوده جناحها الشيوعي، ثم تراها بعد قليل بين جيش الحكومة وجيش الجبهة الوطنية فى شوارع الخرطوم ومطاره ودار هاتفه عام 1976، وتراها فى انقلاب الجبهة الإسلامية عام 1989، وفى معارك قوات التحالف و"جيش الأمة" فى شرق السودان، وتراها فى معارك دار فور، وفى معارك حركة العدل والمساواة وغزوتها لأم درمان. وكنت ترى هذا الفريق يلوذ بأثيوبيا وليبيا ومصر حينا، وبتشاد واريتريا حينا آخر، يتلقى العتاد والتدريب والأموال، وترى الفريق الآخر يلوذ بالبعيد وبالقريب، وقد يرهن ثروات السودان الظاهرة والباطنة من أجل القضاء على أولئك "الخونة والمرتزقة"، كما يصفهم إعلامه الرسمي. وكل هذه كما لا يخفى عليك كانت حروبا شمالية-شمالية، تجرى فى داخل أروقة الكيان العربي المسلم أولا، ثم يتطاير شررها الى الجنوب، حيث ينشط قادة المعارضة الشمالية (من إمام ومولانا وشيخ) فى البحث عن قادة التمرد الجنوبي، وفى التودد إليهم، "ليباركوا" تمردهم، وليوفروا لهم الغطاء الأدبي والشرعي، ثم يمدونهم بالمعلومات، ويوثقون صلاتهم بالدول "العربية الصديقة"، لتتسع الحرب وتستمر فى الاشتعال، لا لشيء إلا لأن بعض هذه الأطراف المتناحرة فى الشمال ترغب فيها وتشجعها، وتمدها بالذخيرة الحية، نكاية فى الطرف الآخر، والذى سيسعى بدوره إما لوضع المجتمع السوداني برمته فى أتون تلك الحرب، وإما للتوقيع على اتفاقية سلام متعجلة ومنقوصة مع الجنوبيين، ليس لإيمان صادق بالسلام، وإنما تكتيكا سياسيا يتفرغ من خلاله لمواجهة عدوه الأكبر فى جبهة الشمال. هذه الحرب الشمالية-الشمالية هى التى عطلت مشاريع التنمية، وشردت ملايين السودانيين الى خارج الوطن، وثبتت أقدامنا فى قائمة الدول المتخلفة/الفاشلة/الفاسدة. فهب أننا فصلنا الجنوب، وتخلصنا من حروبه، فهل هذا الفصل سيوقف حروبنا نحن؛ حروب الشمال ضد الشمال؟ أم أن الانفصال سيوفر قاعدة بديلة لأحزابنا الشمالية المعارضة، فتقيم معسكراتها فى جوبا بدلا من تجشم مشاق السفر الى الصحراء الليبية أو الى أسمرة وانجمينا وأديس؟ قال: ولكن هذا سيعنى أن الحرب ستستمر سواء فصلنا الجنوب أو لم نفصله، فما الذى يجعلك تفضل الوحدة على الانفصال؟ قلت: ما يجعلني أفضل الوحدة على الانفصال هو إيماني بديناميكية العمل السياسي المشترك، وأقصد بذلك أن كثيرا من الإيديولوجيات السياسية المغلقة تخضع لعمليات المراجعة والتعديل والانفتاح من خلال التفاعل مع البيئة الاجتماعية والثقافية التى تمارس فى إطارها السياسة اليومية، وما يتبع ذلك من عمليات تبادلية، كما حدث للأحزاب الشيوعية فى أوربا الغربية وأمريكا اللاتينية، وكما حدث لبعض الحركات الإسلامية فى أفريقيا وآسيا. ولن تكون الجبهة الشعبية استثناء فى هذا المجال إذا وافقت على إلقاء السلاح، وقبلت الانخراط فى العملية السياسية السلمية، كما هو حالها الآن(وهو موقف متقدم ينبغى ان يقابل بالترحيب)، لأن انخراطها فى العملية السياسية يعنى أنها ستفكر فى زيادة مؤيديها فى شمال السودان، وفى توثيق روابطها بتكويناته المحلية، وفى تعزيز مصالحها الاقتصادية ومشاريعها الاستثمارية فى الخرطوم وفى مدنه الأخرى. وهذه عملية تبادلية ذات اتجاهين، تكسب فيها الجبهة الشعبية من ناحية، ولكنها ستضطر لتقديم تنازلات كثيرة من ناحية أخرى، وعن طريق الأخذ والعطاء تتعزّز الثقة و السلام الاجتماعى، وتتوفر فرص للتنمية السياسية والاقتصادية. أما من ناحية أخرى، فان التفاعل السياسي للجبهة الشعبية فى شمال السودان، سيحولها من خانة "الرصيد" السياسي المضمون لبعض أحزاب الشمال إلى خانة "المنافس" الجديد لها، فيتعذر بعدئذ أن يتاجر أحد هذه الأحزاب بورقة الجنوب، أو أن يسخرها فى حروبه الخاصة، فيضطر كل حزب للاعتماد على مقاتليه الحقيقيين( إن كان يريد حربا)، أو على رصيده السياسي الحقيقي(إن كان يريد سلما)، مما يعنى خفضا فى التطلعات، وإعادة ترتيب للأولويات، وعودة للقواعد الجماهيرية، وبحثا عن الحلفاء، وقبولا للحوار والتفاهم مع الآخرين، وذلكم هو طريق التحّول الديمقراطي السلمي الذي نروم، وهو طريق يحتاج الى صبر ومصابرة قد لا يطيقها الانفصاليون. اقرأ الحلقة الأولى هنا اقرأ الحلقة الثالثة هنا