(لقد هرمنا ..هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية ) عبارة شهيرة لكهل تونسي جعلت منها قناة الجزيرة فاصلا من فواصلها المثيرة دعما لثورة الشعب في تونس الحرة وهي في مضامينها تحمل رؤية كاملة للحظة فاصلة في تاريخ تونس اليوم ربما كان الرجل دقيقا جدا عندما أسماها (باللحظة التاريخية). وتاريخية أي لحظة ومرحلة من تاريخ الأمم والشعوب تتوقف على التغيرات الإجتماعية والسياسية التي تحدثها أحداث هامة في تاريخ الانسانية فبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مرحلة تاريخية مهمة في حياة البشرية وفاصلا بين عهد عبادة العباد وعبادة رب العباد وبين جور الأديان المسنودة بالسلطان قهرا للناس إلى عدل الإسلام المسنود بالقيم ومن ضيق الدنيا التي اختصرت لفرس وروم إلى سعة الإسلام التي قبلت الآخر واعترفت بوجوده وأرست مبدأ التعدد برسالة هي رحمة للعالمين ثم كانت مرحلة الملك الجبري والملك العضوض تنهشان في راشدية الحكم الإسلامي استنادا لميراث قبلي أو أسري أو طائفي وامتدت لقرون في حياة المسلمين وفي البعيد كانت مرحلة عصر النهضة الأوربية في القرون الوسطى نتاجا ومرحلة تاريخية لعصر التنوير في الأندلس كما أصبحت من قبل الثورة الفرنسية عهدا فاصلا بين الملكيات ونشؤ الجمهوريات الحديثة في عصرنا الحالي وشيوع الديمقراطية والفكر الليبرالي . ولكن هل يمكن أن نعتبر الثورات العربية الحالية مرحلة فاصلة جديدة في تاريخ شعوب المنطقة ؟ وهل يمكن للإسلاميين تحديدا أن يتوقفوا لبرهة ليفكروا في هذه اللحظة التاريخية وهم من أهم أحد عناصرها التي ساهمت وتساهم حتى الآن بالتغيير ؟ إن ملاحظة تاريخية المرحلة والإحساس بالنقلة الإجتماعية ضروري لتوليد الفكرة والموقف معا في تأسيس الوعي السياسي فالإسلاميون قد أسسوا في مرحلة سابقة طال بها العمر مايعرف بالجماعات وهي كيانات نشأت في مرحلة مابعد سقوط الخلافة الإسلامية وهي مايمكن أن نسميها مرحلة الصدمة أي صدمة سقوط الكيان السياسي للأمة وحالة الفراغ النفسي والسياسي والفكري التي اجتالت الأمة ومفكريها الذين حاولوا وبجد ومن خلال أفكار مختلفة (الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي) كمثال أن يعودوا للكيان الواحد في مشهد تراجيدي مؤلم لأمة ينهشها الإستعمار وتقسم أرضا وشعوبا وثروات . ثم ظهر الشيخ حسن البنا والذي أسس بفكره لمرحلة الجماعات بشكل عميق بإرسائه لبنية تنظيمية سيكون لها أثر كبير فيما بعد في التحولات الفكرية والسياسية المعاصرة وماظهر من مايعرف بالإسلام السياسي عند المراقبين والمتابعين. والظاهر أن الجماعات وتكوينها كانت تعبير عن الرغبة في العيش في كيان الأمة بمعنى أن الجماعات كانت تستبطن الأمة والخلافة داخلها فنظرة تحليلية فاحصة لمجتمع الجماعات وحتى اليوم سنجده يحاول خلق جو خاص به لحياة اسلامية يراها امتدت حتى إنشاء مدارس خاصة ومستشفيات خاصة وبنوك خاصة ...الخ وحتى السلوك الجمعي والفردي لأفراد الجماعات مع بعضهم يختلف ويكاد يناقض السلوك مع المجتمع المنظور له بريبة أحيانا .أما لو نظرت لصلاحيات الأمير أو المرشد أو رئيس الجماعة فستجد أنها أشبه بصلاحيات خليفة المسلمين آنذاك غير أنها بمستوى أقل وبتعبير مختلف وهو ماعنيناه بالإستبطان النفسي لواقع متطلع له وهو مانجح الإسلاميون في رسمه داخل انفسهم وعقولهم وربما حتى بيئات جماعاتهم ولكنهم في كل مرة كانوا يأخذون هذا الواقع ليلامس الواقع الآخر للشعوب كانوا إما في مرحلة الريبة أو الغيبة . ونقصد بالريبة تجريم المجتمعات ورميها بالفسوق والشرك والضلال وربما حتى الكفر وصولا لهدر الدم تحت تأويل فاسد يعتصم بمبدأ (وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة) أو الغيبة وهي العزلة النفسية عنها بالغياب عن مشاهد التحولات التاريخية المهمة فيها اعتصاما بمبدأ (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة)! . وكلا الرؤيتين تعكس تشوشا فكريا يحسن بنا الإعتراف به ففي المثال الأول فإن أبطال مسلسل الريبة لم يتوافقوا مع المشهد السياسي في الجزائروتونس ومصر وحملت الجماعات السلاح بوجه الحكومات والمجتمعات وسالت الدماء فداء لفكر لايرى في الآخر إلا كفرا ومنكرا لايزول إلا باليد وماوصل هؤلاء لنتيجة غير أن شددوا من قبضة الحكام الطغاة على الشعوب بقوانين الطوارئ ومكافحة الإرهاب فبدلا من أن يزيلوا المنكر أسسوا لإستمراره وشرعيته عوضا عن متاجرته بالوسطية والاعتدال في اوربا وامريكا لمحاربة مايسمى بالإرهاب ! وهي نظرة سياسية قاصرة لجماعات لم تفقه كيف تتحرك ضمن نطاق الأمة ككل وليس نطاقها هي لوحدها كأنها وصية على الأمة . أما حالة الغيبة فتتمثل في أبرز تجلياتها سلوك الحركة الإسلامية في مصر والخليج والأردن ففي حين إكتسبت كل مرة الشرعية القانونية والواقعية كانت الحركة تنعزل عن الحراك السياسي بإعذار من مثل مقاطعة الانتخابات أو ترتيب البيت الداخلي أو غير ذلك من الأعذار المعبأة والجاهزة. واليوم عندما تحركت الشعوب العربية تطيح بحكامها الذين عجز الإسلاميون بالقوة او بغيرها عن الإطاحة بهم لأكثر من نصف قرن من الزمن يبقى السؤال هل مازالت الجماعة من الممكن أن تعبر عن الوعي الذي تطور في ماتطلبه الشعوب ؟ إن الواقع يقول أن الشعوب لن تنتظر الجماعات لتحسم خلافاتها الفكرية والفقهية في الديمقراطية والتعددية ومشاركة المرأة في العمل السياسي والمواطنة والحريات وحقوق الإنسان وكل جماعة تجادل في ذلك سنوات وسنوات ! في قضايا هي اليوم شعارات الثورات في ساحات التغيير والتحرير العربية فماذا عسى الإسلاميين يفعلون لهذه المعضلة ؟ إن الواجب يقتضي أن تنتقل الجماعات من مرحلة الأمير لمرحلة رئيس الحزب ومن مرحلة الطاعة لمرحلة الحقوق والواجبات ومن مرحلة الشعار لمرحلة الرؤية ومن مرحلة الأيدولوجيا لمرحلة البرنامج ومن مرحلة الإنكفاء او العزلة لمرحلة المشاركة وصناعة الرأي والقرار. إن البنية القديمة للجماعات الإسلامية لن تكون قادرة على التعاطي الإيجابي مع تطلعات الشعوب التي وضح أنها مسيسة بإمتياز وليس كما كنا نظن فالشباب العربي حاليا طور من قوالبه السياسية لتتجاوز الأطر التنظيمية لحالة من الوعي الجمعي المتشارك بالتقنيات الحديثة والمنشئ لمرحلة جديدة وحساسة في نفس الوقت. لايمكن للجماعات أن تعبر عن التطلعات الحالية والشعوب خرجت ضد الإستبداد والقهر والفساد وبنيات الجماعات نفسها تحكي عن القهر الفكري والتنظيمي لأعضائها والتداول للسلطة داخلها يتم بمعايير أهل السبق والفضل أو أهل السلطة والمال والجاه !علما اننا في رؤيتنا للتحول للأحزاب نفسها تجاوزها الزمن في العالم من حولنا فأوروبا وامريكا تعيشان مرحلة المجتمع المدني وسلطة القانون وما الأحزاب إلا مكون صغير من مكوناته فربما تكون نقابة لعمال الفحم في اوربا أقوى من حزب سياسي كبير هناك ! ولكن هذا قدرنا ان نتأخر دائما في تحولاتنا التي نتشفع لها بالمثل القائل (أن تأتي متأخرة خير من أن لا تأتي)! ويبقى الأمل في ثورة فكرية بالجماعات لتنتقل من مرحلة الصحوة لمرحلة اليقظة التي أرستها الشعوب الحرة المعلمة.