لا يخفى على أحد الدور المتعاظم الذي يلعبه الإعلام في العصر الحديث، وذلك بتشكيل الرأي العام وصياغة التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لكافة المجتمعات في ظل التحديات التي تواجه الشعوب بصفة عامة والشعوب الإسلامية على وجه الخصوص؛ الأمر الذي صار يشكل هاجساً كبيراً للدعاة والمصلحين في واقع الانفتاح الإعلامي بكافة أشكاله الذي تبدت آثاره بوضوح في الغزو الثقافي الذي استغله أعداء الأمة في الداخل والخارج أسوأ استغلال، في محاولة لطمس الهوية الإسلامية وزعزعة الثوابت والقيم التي تميز ديننا الحنيف ومجتمعاتنا الإسلامية ومما يؤسف له أن الاهتمام بالإعلام من قبل الدعاة والمصلحين جاء متأخراً، وكانت المبادرات الإعلامية في هذا الصدد قائمة على ردود الأفعال أكثر من قيامها على المنهجيات المدروسة؛ لذا كان تأثيرها على نطاق محدود؛ مما قلل من فاعليتها في مواجهة الإعلام المضاد إن جاز التعبير الذي يتوسل بأكفأ الخبرات وأحدث التقنيات. ولعل حالة السودان مثلت نموذجاً ملموساً لتقاصر الإعلام السلفي عن القيام بالدور المنوط به؛ فعلى مستوى الصحافة مثلاً لا توجد سوى صحيفة واحدة تحمل توجهات سلفية هي صحيفة (المحرر)، وهذه الصحيفة صحيفة أسبوعية؛ مما جعلها عاجزة عن منافسة الصحف اليومية التي تلبي حاجة القراء المتجددة، وتواكب المستجدات المطروحة على الساحة، بالرغم الموضوعات من المتميزة والهادفة التي تطرحها؛ كما أن انتشارها ينكفيء على نطاق محدود لم يتعدَّ الوسط السلفي في أغلب الأحيان. ولعل واقع المجلات أفضل حالاً بشكل نسبي، فهناك عدة مجلات ذات توجه سلفي مثل (الاستجابة) و(صحتك) و(اللواء)، ولكن يعيب هذه المجلات تذبذب صدورها نتيجة لمشاكل التمويل، إضافة إلى عدم تفرغ كوادرها. كما لا توجد في السودان سوى إذاعتين يحملان توجهات سلفية هما إذاعة (طيبة) وإذاعة (البصيرة). وبالرغم من المجهودات التي بذلها القائمون على أمر هاتين الإذاعتين لتطوير الأداء فيها بغية توسيع قاعدة المستمعين، فإن بثهما ما زال محصوراً على مدن بعينها، وإن كانت هناك مساعٍ جارية ليشمل نطاق البث جميع مدن السودان في المرحلة المقبلة بإذن الله. أما بالنسبة للبث التلفزيوني، فلا توجد سوى قناة إسلامية واحدة ذات توجهات سلفية هي قناة (طيبة)، وبالتالي فإن العبء على هذه القناة سيكون كبيراً لسد الفراغ الذي أحدثه غياب الإعلام السلفي عن البث التلفزيوني في السودان. أسباب قصور الإعلام السلفي: هذا القصور الواضح للعيان في خارطة الإعلام السلفي في السودان تقف وراءه أسباب عدة، منها: أولاً: الفهم التقليدي لكثير من الدعاة للدعوة في إطار ضيق لا يتعدى الدروس والمحاضرات المباشرة في المساجد والجامعات والمعاهد الإسلامية. ثانياً: عزوف الداعمين للعمل الخيري الإسلامي في الداخل والخارج عن دعم الأنشطة الإعلامية السلفية؛ باعتبارها لا تمثل أولوية في بلد يهدده شبح الحرب والجوع والمرض؛ إذ ينصرف أغلب الدعم إلى الأعمال الخيرية والإٌغاثية كبناء المساجد والمستشفيات والمراكز الصحية والقوافل الطبية والإغاثية. ثالثاً: ما يجده العمل السلفي من تضييق ورقابة في العالم الإسلامي بصفة عامة، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي جعلت الولاياتالمتحدة وحلفاءها يضغطون على الدول الإسلامية لتلاحق النشاط الإسلامي باعتبارها راعياً للإرهاب. ولا يخفى على أحد ما أفرزته هذه الحملة المزعومة من إغلاق لعدة منظمات وتضييق على العمل الدعوي، وتعقيد لإجراءات العمل الإسلامي بما فيه الإعلامي وإن كان هذا التعقيد ولله الحمد أخف وطأة في السودان، مقارنة بكثير من الدول الإسلامية الأخرى. رابعاً: تكلفة العمل الإعلامي العالية، خاصة إن كان هذا العمل الإعلامي متميزاً يستند إلى الخبرات الإعلامية المحترفة ويعتمد على أحدث الوسائل التكنولوجية. خامساً: ندرة الكفاءات الإعلامية في أوساط السلفيين خاصة وسط الشباب ؛ لأن التوجه العام لدى السلفيين هو الالتحاق بالكليات الشرعية أو كليات العلوم التطبيقية من طب وهندسة وعلوم...الخ، وقلَّ أن تجد ميلاً لدراسة التخصصات الإعلامية التي ما زال كثير من السلفيين يعتبرونها تخصصات ثانوية لا تفي بمتطلبات الدعوة، بل ويراها بعضهم أهون من أن تُتخذ تخصصاً؛ إذ بمجرد أن يأنس الشخص في نفسه موهبة أو هواية، فهذا يكفي لممارسة العمل الإعلامي. كما يتخوف البعض من ولوج هذا المجال لسيطرة العلمانيين على مقاليده، وما يشوبه من اختلاط ومحاذير شرعية؛ ويرى بأنه سيضطر إذا التحق به إلى تقديم تنازلات في ثوابته وقيمه. سادساً: النظرة الدونية العامة في البلاد للإعلام باعتباره تخصصاً غير ذي بال إذا قورن بغيره من التخصصات مثل الطب والهندسة، وغيرها من التخصصات التي تجد سوقاً للعمل وعائداً مادياً مجزياً. سابعاً: فهم كثير من السلفيين للإعلام على أنه لا يتعدى تغطية المحاضرات والدروس الدينية وأنشطة الجمعيات والمنظمات الخيرية؛ أي أن الإعلام محصور في مجالات محددة لا تتعدى دائرة التوثيق والأرشفة. أثر واقع الإعلام السلفي على الدعوة السلفية في السودان: وقد كان لهذا الواقع القاصر الذي يمثله الإعلام السلفي عدة نتائج وإفرازات ألقت بظلالها على واقع الدعوة السلفية في السودان منها: أولاً: استحواذ العلمانيين واليساريين وغيرهم ممن يدّعون التحرر والليبرالية والانفتاح والحياد على الساحة الإعلامية في السودان، وسعيهم لاستيراد نماذج سياسية وثقافية واجتماعية وافدة والتنكر في المقابل للموروثات والقيم الدينية، والتهكم على رجال الدين والجماعات الإسلامية خاصة في الصحف ورميهم بتهم الإرهاب والرجعية والظلامية، وغيرها من المصطلحات والنعوت التي تطلق لتنفير المجتمع من كل ما له صلة بالدين، متخذين من تجربة الحركة الإسلامية التي تقلدت الحكم في يونيو 1989م ذريعة للانتقاص من الدعوات القائلة بالرجوع إلى الدين الخالص والاحتكام لشرع الله. ثانياً: تزييف الحقائق وتسمية الأشياء بغير مسمايتها، فالرجوع إلى الدين والتمسك بما كان عليه السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم (أصولية) و(تزمت)، والسلفية (رجعية) و(إرهاب)، ومحاربة البدع والخرافات (تشدد) و(انغلاق). ثالثاً: بروز اتجاه إعلامي يتبنى قضايا انصرافية تلهي المجتمع المسلم عن قضاياه الجوهرية والمصيرية، وتنأى به عن الاهتمام بما يحيق بالأمة من مخاطر وتحديات؛ فنشأت لذلك قنوات تلفزيونية وإذاعات وصحف تتوسل بشتى الإغراءات والبرامج والمواضيع الترفيهية والانصرافية التي تصطدم في كثير من الأحيان بالقيم الدينية، بل وتصطدم أيضاً بالعادات والتقاليد الموروثة؛ وذلك سعياً لاستقطاب أكبر قاعدة جماهيرية ممكنة من المشاهدين والمستمعين والقراء. ومن أمثلة ذلك نشوء قنوات وإذاعات وصحف قائمة تنشر الشركيات والبدع على أوسع نطاق بدعوى حبها وتعظيمها للنبي صلى الله عليه وسلم،علاوة على تلميع نجوم الكرة والطرب والغناء الهابط والثراء المشبوه، وغير ذلك من البرامج والموضوعات الفارغة من المحتوى؛ مما أسهم في صنع قدوات جديدة مبنية على الشهرة والمال والنفوذ، خصماً على ربط الأمة بثوابتها وقدواتها الحقيقية وتوعيتها بكيفية التصدي للتحديات الماثلة. رابعاً: تشكيل تكتلات إعلامية تتخذ من المنابر الإعلامية مسرحاً لتمرير أجندتها وخططها الرامية للتصدي للمد السلفي؛ باعتباره يمثل خطراً حقيقياً يهدد استمرارية هذه الأجندة، ويفضح خططها الرامية لتغريب المجتمعات المسلمة ومسخ هويتها وبسط تبعية عمياء للثقافات الواردة وإن بدت في بعض الأحيان في ثوب التحرر والتقدمية والتعايش مع الآخر وغيرها من المبررات التي يسوغون بها الهجوم على الدعوة السلفية. مناشدة: لا ننكر مشاركات كثير من المشايخ والدعاة في أجهزة الإعلام، ولكن تبقى هذه جهوداً فردية لا يمكن أن تشكل عملاً ممنهجاً ومدروساً يستطيع أن يعمق تأثيره على وجدان المجتمع ويؤثر على اتجاهاته؛ مما يحتم على الدعاة والمصلحين والخيرين أن يعيدوا ترتيب أولوياتهم؛ ليجعلوا الإعلام بمفهومه الواسع الذي لا يصطدم بالمحظورات الشرعية على رأس قائمة هذه الأولويات، مع السعي لاكتساب الخبرات في مجال الإعلام، علاوة على الاستعانة بالتقنيات الحديثة؛ لإيجاد بديل شرعي لهذا الغثاء والزبد الإعلامي الذي عمت به البلوى في أجهزة الإعلام المختلفة. كما أن التجربة الإعلامية السلفية بحاجة ماسة إلى تقييم وتقويم واستصحاب للتجارب الإعلامية السلفية في الدول الأخرى؛ وذلك لتعضيد الإيجابيات وتلافي السلبيات، خاصة وأن هناك بعض التحفظات على هذه التجربة من النقاد الذين يرون أنها لا تمثل تجربة سلفية خالصة لما شابها من بعض الشوائب، ولعل هذا ما دعانا لأن نصف القنوات والإذاعات والصحف التي ذكرناها بأنها (تحمل توجهات سلفية) أو (ذات توجهات سلفية). ويقيننا أن الزبد الذي لا ينفع الناس سيذهب جفاءً بإذن الله عندما يجد من يتصدى لهذه المهمة العظيمة بصدق وإخلاص، ويعمد إلى تأسيس إعلام بنّاء يسهم في توجيه الأمة إلى ما ينفعها في دينها ودنياها، ويربطها بقيمها وثوابتها وقضاياها المصيرية، ويصحح كثيراً من المفاهيم التي شوهها مرضى النفوس وأصحاب الأهواء والأفكار المنحرفة.