من المشاهد الملموس أن الكون تحكمه سنن وقوانين طبيعية لا ينفك عنها ولا يحيد، تكَشَّف الكثير منها ولا يزال يكتشف كلما تطورت العلوم الطبيعية. وبنفس الطريقة فإن المجتمع البشرى أيضا تحكمه سنن اجتماعية بعضها كشفت عنه العلوم الاجتماعية ولا يزال بعضها مجهولا. وقد قرر القرآن الكريم بعض هذه السنن وأشار إليها في عدد من المواضع. ومن تلك السنن الاجتماعية التى ذكرها القرآن سنة الدفع، فقد جاءت في آيتين اثنتين هما قوله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ 0للَّهِ 0لنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ 0لأَرْضُ وَلَٰكِنَّ 0للَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى 0لْعَالَمِينَ) سورة البقرة: آية 251، وقوله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ 0للَّهِ 0لنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا 0سمُ 0للَّهِ كَثِيراً) سورة الحج: آية 40. فما المفهوم القرآني للدفع، وكيف يؤثر في إزالة الفساد؟ هذا ما يحاول هذا المقال الإجابة عليه. بالنظر للسياق الذي ورد فيه قوله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ 0للَّهِ 0لنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ 0لأَرْضُ)، تتضح بعض معاني الدفع. فقد جاءت الآية تعقيبا على قصة طالوت وجالوت. وكانت بنوإسرائيل بعد موسى قد تعرضوا لغزوات كثيرة من الأمم التي حولهم، الذين استزلوهم واستضعفوهم، فطلبوا من نبي لهم اختيار ملك عليهم يقاتلون تحت إمرته وقيادته، فاختار لهم بوحي من الله تعالى طالوت. وأعد طالوت جنوده للمعركة، وامتحن صدقهم وصبرهم في سيره لقتال عدوه، فصمدت قلة لكنها صابرت وثابرت حتى هزمت جيش أعدائهم بقيادة جالوت الذي قتله داود في المعركة. ففي هذه القصة يتبين أن الدفع المقصود به الجهاد والقتال والمعركة التى انتهت بهزيمة الكفر وجيشه، "ذلك أن الفساد الواقع بجالوت وجنوده زال بما كان من طالوت وجنوده ، وبما كان من داود من قتل جالوت" (تفسير الرازي - ج 3 / ص 422). أما الآية الأخرى فقد جاءت أيضا عقب الإذن بالقتال حين قال ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ 0للَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ )، ثم قال (لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا 0للَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ 0للَّهِ 0لنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا 0سمُ 0للَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ 0للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ 0للَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). ولهذا قال ابن زيد، في تفسيرها: لولا القتال والجهاد. لكن لا يبدو أن مفهوم الدفع قاصر على الجهاد والقتال، فقد توسع المفسرون وذكروا أنواعا من الدفع، وما ذكره المفسرون من أنواع الدفع ليست إلا أمثلة. ذلك أن الدفع معناه المنع والإزالة بقوة، ولما كان الفساد والشرور تتنوع، فكذلك فإن منعها وكفها وإزالتها لا بد أن يتنوع بحسب الشرور وأنواع الفساد الواقع. وقد ذكرت الآية الثانية نوعا من هذه الشرور وهو هدم أماكن العبادة وتعطيلها عن القيام بوظيفتها، سواء كانت صوامع الرهبان أو بيع النصارى أو مساجد المسلمين. ومن أهم أنواع الدفع التى يحتملها النص مايلى: 1.الدفع ببيان الحق والباطل والخير والشر، والدفع بتغيير المنكر وإزالته بكل سبيل ممكنة ومشروعة، وهي مهمة الأنبياء وأئمة الهدى والعلماء والدعاة، بل مهمة كل مسلم فيما يقدر عليه ويستطيعه. 2.الدفع بإقامة حكم إسلامي يقرر الحقوق ويمنع التظالم بالتشريعات التى يفرضها والقوانين التى يسنها وبسلطة القضاء وسطوة الجيش والشرطة. 3.الدفع بالقتال والجهاد وما يستتبع ذلك من سلاح وإعداد وتدريب حسب ضوابطه الشرعية من عدم العدوان والظلم. وهو المعنى الأولى والأساسي للدفع حسب سياق الآيتين. 4.وأشار المفسرون لنوع رابع من الدفع وهو الدفع بصلاح الصالح المفاسد والشرور عن غيره، ومما يستدل به على صحة هذا القول حديث مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: « رَأَى سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ » أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ « إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ » أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ. فواضح من الحديث أن الصلاة والدعاء والإخلاص، من أسباب الرزق والنصر بجانب أسباب أخرى. وعلى هذا فإن دفع الفساد والشرور بالصلاح لا بد أن تتضافر معه الجهود الأخرى ليؤتى أكله في الإصلاح، وإلا فإن الصلاح الفردي وحده لا يكفي في دفع الشرور، ويؤكد هذا المعنى حديث زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من نومه وهو يقول " لا إله إلا الله . ويل للعرب من شر قد اقترب . فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه " وعقد سفيان بيده عشرة . قلت : يا رسول الله ! أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال " نعم . إذا كثر الخبث " . رواه البخاري ومسلم. وقد توسع بعض المتصوفة في مسألة دفع الفساد بصلاح الصالحين، واعتمدوا على أحاديث كلها واهية وباطلة، منها حديث عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء "، قال ابن كثير وإسناده ضعيف جدا. وحديث عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده، وولد ولده، وأهل دويرته، ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله عزّ وجل، ما دام فيهم " وهذا أيضاً غريب ضعيف؛ وحديث عن عبادة بن الصامت، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأبدال في أمتي ثلاثون، بهم ترزقون، وبهم تمطرون، وبهم تنصرون " رواه ابن مردويه. وقد قرر ابن تيمية وابن القيم أن أحاديث الأبدال والأوتاد والأغواث كلها باطلة. فالصلاح ينفع في دفع الشرور، لكنه بما ينتج عن ذلك الصلاح من جهد وعمل لإزالة المنكر، مثل الدعاء والتضرع إلى الله، والنصح والدعوة وتعليم الخير والجهاد والقتال. أما صلاح دون هذه الجهود فلا يبدو أنه سيزيل المنكر, وخلاصة الأمر في معنى الدفع في القرآن أنه لا يمكن قصره على وجه واحد من أوجه الدفع بل هو مفهوم شامل وعام كما أشار إلى ذلك عدد من المفسرين، فكل ما يكف الفساد بأنواعه المختلفة ويمنعه ويزيله فهو أمر مطلوب ما دام مضبوطا بضوابط الشرع. وبهذا ينفتح الباب لكل جديد من أنواع الدفع بحسب الزمان والمكان، من مثل المظاهرات والاعتصامات، وجماعات الضغط وغيرها مما درج عليه الناس في عصرنا هذا، فكلها أمر ناجع وله أثره في إزالة الفساد.