أمر الله تعالى عباده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعله من صفات عباد الله المفلحين، قال تعالى: «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون» «104» آل عمران 104 إن خيرية هذه الأمة على سائر الأمم ليست نابعة عن مجاملة أو محاباة أو اختصاص بلا مسوغ، بل هي منبثقة عما ذكره الله تعالى عنها في كتابه حيث قال: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ» فمناط الخيرية في أمة الإسلام موصول بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنبثق من الإيمان بالله ورسوله، فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات تحققت فيه الخيرية وإلا فلا، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قرأ هذه الآية: «من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها». كما أنه من أبرز صفات المؤمنين ولذلك قال سبحانه: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» . ومن عواقب تركه:- قال تعالى: «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يعملون» . ومن فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقامة الملة والشريعة وحفظ الدين والشعائر قال تعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ» فبالأمر بالمعروف تقوم الشريعة وبالنهي عن المنكر تندثر الرذيلة والمعصية. وقال النبي: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً» . وفي مسند الإمام أحمد بسند جيد عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» قال ابن العربي رحمه الله: «وهذا فقه عظيم وهو أن الذنوب منها ما يعجل الله عقوبته ومنها ما يمهل به إلى الآخرة، والسكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات وركوب الذل من الظلمة للخلق». شروط ينبغي مراعاتها على ما توجبه الشريعة وتقتضيه وهي: الشرط الأول: أن يكون عالماً بحكم الشرع فيما يأمر به، أو ينهى عنه، فلا يأمر إلا بما علم أن الشرع أمر به، ولا ينهى إلا عما علم أن الشرع نهى عنه. الشرط الثاني: أن يعلم بحال المأمور: هل هو ممن يوجه إليه الأمر أو النهي أو لا؟ فلو رأى شخصاً يشك هل هو مكلف أو لا؟ لم يأمره بما لا يؤمر به مثله حتى يستفصل. الشرط الثالث: أن يكون عالماً بحال المأمور حال تكليفه هل قام بالفعل أو لا؟ فلو رأى شخصاً دخل المسجد ثم جلس، وشك هل صلى ركعتين فلا ينكر عليه، ولا يأمره بهما، حتى يستفصل. الشرط الرابع: أن يكون قادراً على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا ضرر يلحقه، فإن لحقه ضرر لم يجب عليه؛ لأن جميع الواجبات مشروطة بالقدرة والاستطاعة. الشرط الخامس: أن لا يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفسدة أعظم من السكوت، فإن ترتب عليها ذلك فإنه لا يجوز له أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر وأقف عند هذا الشرط للحاجة الماسة إلى البيان والتفصيل فيه. قال تعالى ناهياً رسوله الكريم وعباده المؤمنين: «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم» الأنعام « 108». فنهاهم عن سب آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منه وهي مقابلة المشركين بسبب إله المؤمنين... ومن هذا القبيل وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها ما جاء في الصحيح أن رسول الله قال: ملعون من سب والديه قالوا: يا رسول الله، وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، والله لا يحب الفساد بل كل ما أمر به فهو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم الفساد والمفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر بالمعروف والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به وإن كان قد تُرِك واجبٌ وفُعِل محرمٌ؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباد الله، وليس عليه هداهم وهذا معنى قوله تعالى: «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم «108» الأنعام.... إلى أن قال رحمه الله: «إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لايفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً أويتركوهما جميعاً لم يجز أن يؤمروا بمعروف، ولا أن ينهوا عن منكر» . وقال ابن القيم رحمه الله: النبي شرح لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ماهو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر. وقد استأذن الصحابة رسول الله في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لا ما أقاموا الصلاة» وقال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يداً من طاعة»، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الصغار والكبار، رأها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على المنكر، فطلبوا إزالته فتولد منها ماهو أكبر منه، وقد كان رسول الله يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار الإسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشيته وقوع ما هو أعظم من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثو عهد بكفر إلى أن قال رحمه الله: فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده. الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته. الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله. الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه. فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد والرابعة محرمة والحديث الذي أشار إليه ابن القيم رحمه الله في تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم هو ما أخرجه البخاري ومسلم رحمهما الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: «سألت رسول الله عن الجدر أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فلم لم يدخلوه في البيت قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً، قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض». وقد بوب البخاري رحمه الله بقوله: «باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه». ولا شك أن الموازنة بين المصالح والمفاسد من المسائل المهمة التي ينبغي مراعاتها، ومن القواعد الشرعية التي دل عليها استقراء النصوص الشرعية في هذه المسألة قاعدة: درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة قدم دفع المفسدة إلا أن تكون المصلحة راجحة فتقدم على المفسدة المرجوحة.