دخلت العلمانية للسودان عبر بوابة مصر منذ سيطرة محمد علي باشا على السودان عام 1820، ووضعه حداً للممالك الإسلامية القائمة في السودان ، وفي هذا العهد أدخل نظام القضاء المدني بجانب القضاء الشرعي. ولما دخل المستعمر البريطاني السودان عمل على تمكين العلمانية، بفرض نظام التعليم الغربي، وفسح المجال لانتشار الإلحاد والإباحية بإشاعة التبرج والاختلاط بين الجنسين والسعي إلى تفكيك الأمة بالأحزاب وتكوين طبقة من المتغربين في الأمة. ولا شك أن العلمانية التى لا تزال تتقوى لأسباب عديدة وتقف عائقا أمام الدعوة الإسلامية. فما سبيل مواجهتها ومكافحتها؟ الصورة: كتشنر أسقط السودان في العلمانية التعريف: إن هذه التسمية المنسوبة _ على غير قياس _ إلى العلم ، مصطلح ترجم من كلمة أوروبية خطأً وخداعاً ، إذ هي عندهم تعني الشيء الدنيوي أو المادي ، أو بمعنى آخر قطع الصلة بين الحياة والدين. والعلمانية لما نشأت بأوروبا نشأت نتيجة طغيان رجالات الكنيسة واستبدادهم ومحاربتهم للمكتشفات العلمية ومحاربة المكتشفين ، وقصد بها أن يقصر دور الكنيسة على ما هو تعبدي محض ، وأما ما يتعلق بالسياسة والحكم وسائر شئون الحياة فلا دور للكنيسة فيه ، ويلاحظ كذلك ترك الإنسان حراً _ كما زعموا _ في اعتقاداته ، وتوجد علمانية أخرى تحارب الدين السماوي مطلقاً _ كما عند الشيوعيين _. وفي الجملة إن العلمانية لا تعطي للشريعة حرمتها ومكانتها وهيمنتها على كل الجوانب ، خاصة في جانب الحكم والسياسة والاقتصاد ، بل أقحموا عقولهم فرأوا تساوي الجميع فيما يذهبون إليه من عقائد سواء كانت توحيدية أو شركية. وبدأت العلمانية الدخول إلى إفريقيا عبر واحدة من أهم الدول الإسلامية وهي مصر مع حملة نابليون بونابرت الفرنسي ، وأدخل الخديوي إسماعيل القانون الفرنسي عام 1827م. ولما كان السودان يتأثر بما يجري في مصر _ الدولة المجاورة _ خاصة بعد قيام محمد علي باشا بفتح السودان 1820م ووضع حداً للممالك الإسلامية القائمة في السودان . فإن العلمانية بدأت في الظهور في هذا العهد ، حيث أدخل نظام القضاء المدني بجانب القضاء الشرعي ، وسمح في هذا العهد بتنصيب حكام وقواد غير مسلمين لتصريف أمور المسلمين ، وإن كانت قد كثرت المساجد والخلاوى. ثم قامت حركة المهدية بقيادة محمد أحمد الملقب بالمهدي لما رأى من فساد حكم الأتراك في السودان ولكنه لم يستمر طويلاً ، إذ دخل السودان _ بعد اتفاقية (1899م) في حكم ثنائي من قبل بريطانيا _ وهي الأصل _ ومصر ، وفي هذه الفترة _ فترة الاستعمار البريطاني _ دخلت العلمانية بكل قوة .15 بيان عمق العلمانية في المجتمع ومدى أثرها ومخاطرها : لما دخل المستعمر البريطاني السودان عمل على تنصير الجنوب السوداني ، وعلى علمنة شماله مع عمل تنصيري بطئ . ومما يدل على عمق العلمانية ابتداءً من ذلك الوقت ما يلي16: 1/ إن المستعمر أجاز حرية الارتداد عن الإسلام في سابقة غير معهودة . والعجيب أن بعض المنتسبين إلى الدعوة في هذا الزمان لا يرى إقامة حد الردة ! 2/ ظهرت علمنة مفاهيم الفكر والسياسة بوضوح من العهد البريطاني ، فكانت المقاومة ضد العهد الثنائي إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى على أساس أنها جهاد ديني ضد الكفار ، ثم بدأ هذا الشعار يتغير من جهاد ديني ضد الكفار أعداء الله إلى خطب ومظاهرات وإضراب ضد المستعمرين الدخلاء الأجانب , وقد أخذ زمام هذه المبادرة من نال قسطاً من العلوم العصرية وصقل في دواوين الحكومة البريطانية , وتغير الهدف من : ( محو الفساد وهداية العباد وتجديد الدين ) إلى :( طرد المستعمر وإقامة حكومة وطنية سودانية ) . ثم تدرج الأمر إلى إنشاء الأحزاب ! حتى إن اكبر الأحزاب السودانية ( الأمة ) و ( الوطني الاتحادي ) مع أنهما يرجعان إلى طائفتي الأنصار والختمية ، إلا أن الصبغة العلمانية فيهما واضحة ، وما يجري فيهما من محاولات انقسامية دليل على ذلك ، إذ ينبري بعض المثقفين في الحزبين الكبيرين باتهام القيادات الدينية بتجاوز حدودها الدينية إلى المسائل السياسية!! ثم ظهرت قوى أخرى ترسخ للعلمانية _ وتحارب الدين مطلقاً _ مثل الأحزاب الجنوبية و الحزب الشيوعي السوداني والذي أدخله بعض أفراد الجيش الإنجليزي وكان تأثير الشيوعيين على بعض الاتحادات المهنية والنقابات العمالية واضحاً في سيرها على خطى الدعوة لعلمانية الدولة. وقد جرت محاولات لاحقاً _ ابتداءً من نهاية حكم الرئيس السوداني جعفر محمد النميري _ إلى تطبيق الحدود الشرعية وإلى صبغ الحياة العامة بصبغة الإسلام. وعليه فيمكن أن يقال هنا : إن المستعمر الذي أدخل العلمانية قد فسح المجال لانتشار الإلحاد وسعى إلى تفكيك الأمة بالأحزاب وأوجد متغربين في الأمة. فرض نظام التعليم الغربي ومما يلاحظ هنا : أ) انتشرت المدارس الغربية في البلاد ، وفيها وجد الازدراء بالدين, وكان أقل أحوالها الازدراء بلغة العرب وتمجيد اللغة الإنجليزية. ب) تمييع المناهج الإسلامية باسم التطوير ، مع ما فيها من تعقيد ، وصاحبها سوء اختيار لمعلم التربية الإسلامية مما أورث الكراهية في تعلمها . ومما يقر من حق هنا أن الحكومة الحالية سعت سعياً جيداً في تحسين هذه المناهج. ج) حصر التعليم الديني وحصاره مادياً ومعنوياً ، أما الحصار المادي فبتضييق الموارد المالية عليه ويقابله الإغراق بالمال على التعليم الآخر المادي ، وأما الحصار المعنوي فبالتنفير والسخرية بالطالب والأستاذ ووضعهما في ادني الدرجات والمرتبات مع إبعادهما عن التأثير في الحياة العامة ، وفي الجملة يظهر هذا التمييز في مظهر المدارس و الكليات والمعاشات والمرتبات. د) الاعتناء من قبل المستعمرين ببعض من يلاحظ فيه الذكاء وسرعة الانقياد وبعثه إلى بلاد غير إسلامية بدعوى زيادة العلم, والحقيقة هي : زيادة الجهل بالدين ، وشدة التعلق بالغرب النصراني العلماني ، والتطبع ببعض ما يخالف الدين ، ويظهر ذلك في أفكاره وزيه وضعف استقامته ودفاعه عن العلمانية. ه) نشر الاختلاط بين الجنسين في مراحل التعليم ( وهذا سيأتي الحديث عنه إن شاء الله في مجال تأثيرهم على المرأة )* . ونتيجة لهذه الثقافة الجديدة حلت مفاهيم الوطنية والقومية والنظرة الجغرافية الضيقة محل مفاهيم الأخوة الإسلامية والولاء والبراء على أساس رابطة الدين وعالمية الدعوة الإسلامية, كما أنها فسحت المجال لنشر الإلحاد والتغريب ، فمثلاً يقول صاحب كتاب { حوار مع الصفوة } : " ... ودور المجددين في اعتقادي المتواضع هو أن يعيدوا للدين إيجابيته بعد أن سلبه الشيوخ المتحجرون كل مضمون ثوري ... إلى قوة دافعة للتحول الاجتماعي ، ومن صوفية راكدة إلى دعوة رشيدة للّحوق بركب الحضارة الإنسانية ، دورهم هو أن يعيدوا للإسلام روحه وحيويته لا أن يعيدوا تلقين المسلم أصول عقيدته فهو أعرف بها بفطرته"17 بل وجد لاحقاً من ينتسبون إلى الدعوة الإسلامية ، ولهم نوع تحريف لدين الإسلام وموهوا بتسميته تجديداً وحواراً وجدلية بين الأصل والعصر ! وبالجملة نتج من ذلك آثار منها : صار عند كثير من تلك الفئة المثقفة مفهوم أن الشريعة الإسلامية ليست هي الفصل في بعض الأمور ، مع تبني بعضهم لكل ما هو غربي وتسخط عن كل ما يتعلق بالدين ويربط بسلف الأمة ووصم أهل الاستقامة بالرجعيين , ونتج كذلك فتور شديد في الإيمان نتيجة الغفلة عن الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب ، وركون شديد للدنيا والطمع والاستغلال والجشع. التأثير على المرأة وقد بدأ هذا التأثير بالتدرج ، فكانت البداية من تعليمها ، وكان تعليماً لها في مجالها وحياتها المنزلية _ أي أنه تأثير بدا حيياً متخفياً ! _ ولم يطل الزمان حتى ظهر رواد التعليم المدني الحديث المتغربون _ مثل بابكر بدري _ فصارت المرأة تدرس ما يدرسه الرجال ، بل مختلطة معهم في قاعات الدراسة والمؤسسات التعليمية ، ثم لما تعلمت وجد داعي العمل ، فبدأ كذلك محدوداً في مجال التدريس والتمريض ، ثم اتسع الخرق فدخلت كل مجالات العمل في هذه الحياة " فأصبحت المرأة موظفة في الوزارات والمصالح الحكومية والهيئات شبه الحكومية كالجامعات والمعاهد العليا والهيئات الزراعية ، ثم اتجهت إلى البنوك والشركات والمتاجر ، ثم التحقت بالمؤسسات الأجنبية كالسفارات والمفوضيات ومكاتب البعثات التجارية والثقافية ... "18 بل وصارت كذلك مغنية وراقصة ومسئولة في النقابات والاتحادات .. ونتج من ذلك : أ- كثرة التبرج الفاضح ومجاراة الكافرات في زيهن وملابسهن . ب- كثرة الاختلاط بين الرجال والنساء. ج- فقدان التربية السليمة للناشئة في البيوت. د- ضعف الاستقامة والإيمان وانهيار أواصر المجتمع نتيجة لما سبق إذ تهيجت الغرائز الجنسية ونقلت علل وأمراض المجتمعات الغربية الكافرة إلينا . والعجيب أنه كلما حاول بعض المسئولين التخلص من تلك العلل والأمراض أو تخفيفها انبرى للرد عليه جيش من المثقفين المتغربين , كما جرى لوالي الخرطوم السابق لما أصدر قراراً بمنع النساء عن العمل في بعض المجالات كما في محطات البنزين _ وبدأت في شركة شل فهوجم إلى أن ألغي هذا القرار ! أهم أسباب قوة العلمانية وبقائها ونموها 1- أنها دخلت مسنودة من قبل الاستعمار بقوة سلاحه ، ومن قبل المنصرين بتعليمهم المدني الحديث مشاركة مع المستعمرين. 2- التدرج في نشرها وتثبيتها ، كما هو واضح من مثال تعليم المرأة وعملها السابق الذكر ، وبتأليف الناس لتقبلها لما قرب المستعمر بعض الرموز الدينية والصوفية. 3- أنه وجد من يدافع عن العلمانية ممن تغرب من المسلمين ، بل إن بعض جوانب العلمانية صار يدافع عنها من يتكلم باسم التجديد في الدين ممن ينتسب إلى الحركات الإسلامية والأحزاب السياسية. وكان ذلك كله نتيجة اختيار المستعمرين لبعض الرموز المثقفة لتدريبهم وتعليمهم ليقوموا بدورهم كاملاً أو جزئياً. 4- انتهج من أدخلها أولاً سياسة فرق تسد ، ومن مظاهرها : تكوين الأحزاب على النمط الغربي ( الختمية وأنصار المهدي ). وصناعة الحزب الشيوعي ، وإثارة مشكلة جنوب السودان ، حتى أصبحت هذه المشكلة تفرز العلمانية بوضوح ، إذ تنادي الحركة الشعبية بعلمانية الدولة وتجعل ذلك شرطاً في إنهاء الحرب الدائرة حالياً. 5- صارت مسنودة حالياً من النظام العالمي الجديد. 6- ضعف العلم الشرعي لدى كثير من المسلمين وبالتالي ضعف الإيمان عندهم والاستعداد لتقبل ما يخالف الشريعة. 7- استغلالهم لوسائل قوية مؤثرة _ كما في التعليم وقد تقدم _ وفي وسائل الإعلام من سينما ، وإذاعة ، وتلفزيون ، ومطبوعات ، مع ملاحظة أن الإعلام أعم واشمل. أهم العوائق التي تسببها العلمانية في طريق الدعوة الإسلامية : 1) محاربة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر _ أو الحد منها _ باسم الديمقراطية والحريات. 2) بث الشبهات وهي كثيرة, منها : أ- إن الفصل بين الجنسين يؤدي إلى الكبت الذي يمرض نفسياً ، وان الاختلاط يشذب الغريزة ويهذبها. ب- ومنها شبهات تتعلق بعلمانية الدولة, وهي بإيجاز : "_ إن السودان ليس مسلماً خالصاً ، فهناك جنوب السودان به ربع السكان وهم غير مسلمين ، واتباع الحكم الإسلامي يعني القول بفصل الجنوب عن الشمال. _ إن حكم الإسلام ينبغي ألا يقهر الناس عليه بقوة القانون ، بل يأتي تدريجياً عن طريق تزكية النفس وتربية الأفراد ، وقد يسئ إلى حكم الإسلام أن يطبق دون تهيئة وإعداد. _ إن عصرنا هذا قد تجاوز كثيراً أحكام الشريعة السلفية ، ولا يمكن أن تحل مشكلات العصر بأحكام مضى عليها أربعة عشر قرناً من الزمان. _ إن الشريعة الإسلامية قادرة على معالجة مشاكل العصر ، إلا أنها جمدت لعهد طويل وتحتاج منا إلى اجتهاد كثير وبعث فكري أصيل حتى نستطيع أن نجد الحلول المناسبة التي يمكن الأخذ بها ، إلا أن هذا العمل يحتاج إلى وقت كبير. _ إن تطبيق الإسلام يعني الدخول في مواجهة مع الدول العظمى التي تحذر البعث الإسلامي 3) الاتهام والرمي بالأصولية والإرهاب جزافاً محاكاة للأنظمة الغربية الكافرة واستغلالاً لتهور وخطأ بعض المسلمين ، مما يعوق الدعوة إلى الإسلام. وسائل مكافحة العلمانية والحماية منها : 1) تحذير الأمة من خطرها بمختلف الوسائل _ خطبة في منبر ، أو مقالة صحفية ، أو كلمات وحلقات إذاعية وتلفزيونية ، أو في رسائل _ مع بيان ظروف وملابسات نشأتها في الغرب النصراني وعدم صلاحيتها للمسلمين بل وللبشرية كلها لما تحتويه من تناقضات ومحاربة للدين. 2) السعي إلى إعادة النظر في مناهج وسياسات التعليم لتوافق الشريعة الإسلامية. و مما يذكر من الحقيقة هنا أن السودان تحسن وضعه أكثر من ذي قبل في الاعتناء بمنج التربية الإسلامية ، ولكنه بحاجة إلى المزيد ويلزم فصل الجنسين في المؤسسات التعليمية كلها. 3) حث الفقهاء والعلماء على الرد على أعداء الشريعة أينما كانوا وعدم السكوت على تخرصاتهم وعلى كل ما يمس الشريعة الغراء من قريب أومن بعيد. 4) نشر المؤلفات الميسرة التي تشيع مفاهيم الشريعة على أوسع نطاق والتعريف بمزاياها ومحاسنها وعموميتها وشمولها. 5) دعوة المسؤولين لوضع القوانين موافقة للشريعة الإسلامية في كل المجالات. 6) التأكيد على أن انحراف كل دعوة إلى إغفال النصوص الشرعية أو تفسيرها وفقاً للأهواء الشخصية أو الجماعية تعد نزعة غير شرعية, وربما كانت منافية للإسلام. 7) المزيد من البحث والاجتهاد في كل ما يجد من نوازل ووضع أوفق الحلول حسب قواعد الشريعة ونشر ذلك في أوساط المسلمين للاستفادة منه.