الأمة المسلمة - كغيرها من أمم الأرض - تقلّبت بها صروف الحياة، نصرا وهزيمة، وقوة وضعفا، وصعودا وهبوطا.. ذلك لأن سنة الله في خلقه ماضية، ونواميسه في هذا الكون غلّابة لا تحابي أحدا. ومن قرأ نهضات الأمم، وطالع أسرارها يدرك أن التغيير الذي على أساسه تنهض أمة وتسقط أخرى، يبدأ أول ما يبدأ في عالم الأرواح والنفوس والمشاعر :(ذلك أن الله لم يكن مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)..الآيات، ومن هنا كانت هزيمة الروح أضر بمسيرة الجماعات والأمم من الهزيمة في ميدان المعركة، فالمغلوب إذا ملك روحا طموحة، ونفسا لا تقنع بالدون، استطاع أن ينهض بعد قعود ويجعل من الهزيمة نصرا، ومن الضعف قوة وفتحا. لقد شنّ القرآن الكريم غارة شعواء على الانهزام النفسي الذي يصيب مغلوب ويشل حركته ويفرق هَمّه، وذلك بعد انهزام المسلمين يوم أُحُد وخاطب القرآن الجماعة المسلمة خطابا يكشف لها أن الجراحات التي أصابتها يمكن أن تتداركها متى ما تحررت من وهن النفوس :(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين)، ولما أشرف أبو سفيان قائد جيش الكفر يوم أحد وصاح بأعلى صوته : أعلى هبل.. أجابه المسلمون بقولهم: الله أعلى وأجل، ولما قال لنا العزى ولا عزى لكم قالوا : الله مولانا ولا مولى لكم، ولمّا قال: يومٌ بيومِ بدر، قالو: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. إن هزيمة الأمة في ميدان المعركة أمر وارد، والإنسان يُعذر إذا استفرغ وُسْعَه في مواجهة عدوه وانهزم. وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمر ولكن الهزيمة التي لا عذر فيها لأحد أن تنهزم الأمة داخليا في أقطارِ نفسِها ومشاعِرها، فتصبح أمةً خائرةَ العزم، عامرةَ اليأس، راضيةً بواقع حالها، وهذا هو الميدان الذي ما فتئ الماكرون يعملون فيه بجدٍّ ونشاط، حتى صدَّروا لنا أن التاريخ قد قال حكمته الأخيرة وحسم الصراع لصالح الغرب المُنْتَصِر، فخير لنا أن نبحث عن صيغة للتعايش معه، بل خير لنا أن نحذُو حِذْوَه في كل صغيرٍ وكبير، ونتخلّى عن أوهامنا التي تشعرنا بالتميز وتربطنا بأمجاد مندرسة وتراث ماضوي! وممّا يزيد حسرتنا حسرة، أن الذين يروّجون لهذه المقولات المنهزمة فئات من المثقفين تخرّجوا في مناهج الغرب، ليقوموا بهذا الدور الوظيفي، ولا نعلم أمة على وجه الأرض كَبَا بها مثقّفوها و أشاعوا فيها روحا من الاستسلام المزري لعدوها، مثل ما فعل مثقفو هذه الأمّة المسكينة .. أعاذك الله أن تكون منهم. بقلم الأستاذ محمد الحبر يوسف