بحث كثير من المفكرين المعاصرين في حقيقة الحكومة الإسلامية المعاصرة وبينوا في مؤلفات شائعة و معروفة نظرياتها وأشكالها ووظائفها وطريقة اختيارها وتسييرها لشئون الحكم . وكل تلك جهود ضخمة مثمرة . لكن نظرة فاحصة للفكر السياسي المعاصر توضح بجلاء أنه لا تزال هنا وهناك فجوات كثيرة في قضايا السياسة الإسلامية تحتاج إلى مزيد من النظر . وأول تلك القضايا التي تستحق التأمل والتدبر مسألة الحكومة المعاصرة ، وأعني بذلك طبيعتها ودورها في المجتمع . الصورة: الحكومة المعاصرة وحش اسطوري نسخة غربية فمن المعلوم أن الحكومة المعاصرة قد نشأت في الغرب وتحورت وتبلورت في شكلها الحالي وفق ظروف تاريخية خاصة . وحين تحدث الناس عن نظام الحكم في الإسلام افترضوا بداهة أن الحكومة الإسلامية في العصر الحاضر ستضلع بنفس الدور الذي تؤديه المؤسسة الحكومية في الغرب ، وتقبلت أذهانهم بعفوية أنها لن تكون غير نسخة منها . ولم ينشأ في مخيلة الكثيرين أية تساؤلات عن صلاحية النموذج الغربي للبيئة الإسلامية وعن مناسبة ذلك القالب الحكومي لمجتمعات تختلف اختلافا بينا عن مجتمعات الغرب في قيمها وأعرافها . واعتقد الناس أن من المفروغ منه أن تأخذ الحكومة الإسلامية في العصر الحاضر الشكل الذي يشاهدونه بأم أعينهم للحكومات المعاصرة في كل أنحاء المعمورة ، ولم يدر بخلدهم أنه من الممكن أن يكون هناك نموذج مختلف وشكل أفضل . وإذا أردنا أن نعيد النظر في هذه القضية فيحسن بنا أن نلم في عجالة بأصول التصور الغربي للحكومة وكيف أثر ذلك في صياغة الشكل المعاصر المعروف . الحكومة إله في الأرض لعل من التعبيرات الصادقة في وصف الدولة المعاصرة وحكومتها ذلك الوصف الذي أسبغه عليها فيلسوف السياسة الإنجليزي توماس هوبز . فهو يرى أن أفراد المجتمع يذوبون في جسم واحد ويتحدون جميعا ليكونوا ماردا جبارا هو الدولة وحكومتها . وقد شبه هوبز هذا المارد - أي الدولة - بوحش أسطوري مذكور في الإنجيل وموصوف بأنه أعظم وأكبر الوحوش سطوة وقوة ، ولا يدانيه شئ في قوته على زجه الأرض . ويمضي إلى القول بأن الدولة في الحقيقة ما هي إلا إله في الأرض . والحجة الأساسية عند هوبز لتسليم الناس عن طواعية أنفسهم لهذا المارد الذي يبتلع أفراد المجتمع جميعا ، أنه بدونه لن يستتب نظام أو يتحقق أمن أو سلام . وتحققت خيالات هوبز وصارت الدولة المعاصرة وحكومتها ماردا ضخما يمسك بزمام الأمور كلها صغيرها وكبيرها وحقيرها وجليلها . فكل شئ في حياة البشر في يد الدولة التي تعددت وظائفها وتنوعت حتى فاقت الحصر . وصارت الدولة تملك كل شئ وتتصرف في كل شئ وتضطلع بخدمات جمة ، ولك أن تعدد ما تشاء من ذلك ، من أمن وصحة وتعليم ومياه وطاقة وطرق ومواصلات وإعلام واتصالات . والقائمة طويلة ومعروفة ، إلى أن ناءت الحكومة بهذا الحمل الثقيل وأطت ولات حين مناص . وأحكمت الدولة قبضتها على كل شئ ، حتى أصبح الحاكم يتدخل في حياة الناس الشخصية ، ولا بد من إذن الحاكم في غالب الأحيان في كثير من الأمور ، وفي عدد كبير من بلدان العالم يحصي الحاكم على الناس أنفاسهم و يرصد هواجسهم وهمساتهم حتى في أكثر البلاد حرية . ومع أنه من الناحية النظرية فإن السلطات الثلاث من تشريع و تنفيذ وقضاء مستقلة عن بعضها البعض نظريا ، لكن من الناحية العملية تتداخل هذه السلطات وتتمركز في أيدي فئة قليلة تسيطر عليها وتحركها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة . وهكذا أصبحت الدولة في كثير من صورها كما وصفها هوبز ماردا عملاقا ووحشا أسطوريا وإلها على الأرض . تعديلات طفيفة وأصبحت المشكلة الرئيسية في بلاد الغرب فيمن يركب على ظهر هذا الوحش ويمسك بقرونه . وحين زالت سلطة الملوك وصاروا زينة تتزين بهم الدولة ، قفزت الرأسمالية وروضت المارد لمصلحتها وأثقلت الناس بالضرائب الباهظة لتتمكن الدولة من القيام بخدماتها المتعددة وطحنت الطبقات الدنيا تحتها . وظهرت الحركات الاشتراكية تبشر الناس بزوال الظلم إذا ركب العمال على ظهر الوحش ، ووصل المغامرون بثورات هزت الدنيا إلى كراسي الحكم ، فأذاقوها من الويلات أضعاف ما ثاروا من أجل إصلاحه . وحاولت كثير من الحكومات أن تدخل تعديلات على أشكالها ، فوسعت من بعض الحريات الشخصية ، وقللت من عبئها الضخم الذي تنوء به الجبال ، بأن حولت بعض الخدمات إلى القطاع الخاص . ولكن هذه الخطوات صبت في صالح الرأسماليين وفي صالح فئة قليلة هي التي تمسك بزمام الأمور ف حقيقة الأمر ، وهي التي تستأثر به ولا تفرط فيه قيد أنملة . ولها من الأساليب السحرية والماكرة الكثير المعروف ، حتى أضحت السياسة مرادفة للمكر والخديعة والمكيدة والكذب والرياء والنفاق . وقد استوردت هذه الصورة للحكومة المعاصرة إلى حوزة ديار المسلمين ، عن طريق البطش الاستعماري أحيانا ، أو عن طريق التقليد الأعمى للغرب أحيانا أخرى . وهاهنا وقفة لابد منها مع الفكر السياسي الإسلامي . إذ أن هذا الفكر قد تقمص هذا الشكل للحكومة المعاصرة والبسها ثوب الإسلام دون روية ودون تفكير في هل هذا الشكل أمر حتمي لا بد للناس أن يلتزموا به ويأخذوا بقوالبه . فلا بد من مناقشة هذا الموضوع والبحث عن كيف كان المجتمع الإسلامي في العصور السالفة يحكم نفسه ، والتساؤل عن هل تتلاءم طريقة الحكم هذه مع ما تعارفنا عليه من هذا الشكل الغربي المستورد ، أم أنه من الممكن أن نطور حكوماتنا الإسلامية التي عرفتها العهود الماضية لعلها تكون أفضل مما عهدنا في حاضرنا . الحكومة في النظرية الإسلامية في ظل التطورات المعاصرة في العالم الإسلامي ، وسعي المسلمين لتكوين حكومة إسلامية تكون بديلا للأوضاع الفاسدة الظالمة ، كان لابد من تصور واضح للحكومة الإسلامية ووظيفتها في المجتمع. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو هل ستضلع الحكومة الإسلامية في العصر الحاضر بنفس الدور الذي تؤديه المؤسسة الحكومية المعاصرة في الغرب ، أم لها وظيفة مختلفة . وللإجابة على هذا السؤال يحتاج المرء إلى النظر أولا لتعريف علماء الإسلام للحكومة وتصورهم لوظيفتها ، والبحث ثانية في نماذج الحكم الإسلامي في عصوره السالفة لنتبين من ناحية عملية ما دور الحاكم ودور المجتمع المسلم في التاريخ الإسلامي . ثم نخلص من ذلك إلى هل الشكل الحالي للحكومة المعاصرة يتلاءم مع ذلك أم يختلف . وظيفة الحكومة الحراسة تصور المفكرين المسلمين للحكومة الإسلامية ووظيفتها أمر يحتاج إلى وقفة متأنية ونظرة فاحصة . فقد تكرر في كتب الأولين أن السلطان حارس ، وأن مهمته تدبير مهمات الدين والدنيا ، كما أشار إلى ذلك إمام الحرمين الجويني مثلا . فالحكومة ممثلة في الإمام وأعوانه تقوم بدور القيادة والتوجيه والحراسة للمجتمع المسلم ليؤدي دوره بأكمل وجه . وحين ننظر في المسئوليات التي أنيطت بعاتق الحكومة نجدها لا تتعدى المهمات من الأمور مثل الجيش والقضاء والشرطة والبريد والأموال العامة . وقد كان المجتمع المسلم يقوم بكثير من الوظائف الأخرى مثل التعليم والصحة وغيرها . وقد كانت كثير من المؤسسات غير الحكوميه هي التي تشرف على هذه الخدمات وتديرها باستقلالية كبيرة . وقد عدد الدكتور مصطفي السباعي أكثر من ثلاثين نوعا من هذه المؤسسات في كتابه "من روائع حضارتنا" . نذكر من ذلك على سبيل المثال عمارة المساجد والمدارس والمستشفيات ، وتوفير المياه بحفر الآبار وشق القنوات ، وتعبيد الطرق وصيانتها ، ورعاية الأيتام والطفولة والأمومة والعجزة والمكفوفين والفقراء ، وإقامة مساكن الحجاج والفنادق والتكايا التي تؤيي وتطعم المسافرين والمحتاجين مجانا ، وإعانة المجاهدين بالسلاح والمؤن ، والإشراف على المقابر وخدمات الدفن ، وعيادات البيطرة وإيواء الحيوانات العليلة والضالة . باختصار يمكن القول أن المجتمع كان يقوم بالدور الأكبر في المصالح العامة وكان دور الحكومة يقتصر على نطاق صغير من هذه المصالح . وقد كفل المجتمع مصالحه ووفر لها المصادر المالية اللازمة عن طريق الأوقاف وغيرها . وقد كانت هذه المؤسسات الطوعية تؤدي دورها رغما عن فساد الحكومات لأن ذلك الفساد لم يكن ليشمل إلا دائرة ضيقة . كان فساد الحاكم في سلوكه الشخصي أو سلوك حاشيته وأعوانه ، ويتمثل في أكثر الأحيان في تعديهم على أموال الدولة أو حقوق الناس الخاصة . وظل المجتمع يضطلع بمهام جسام وتؤدي مؤسساته دورها ، إلى أن أصاب الانحطاط المجتمع بكليته . وحين جاء الاستعمار إلى أكثر بلاد المسلمين قضى أول ما قضى على مؤسسات المجتمع الوقفية وألحق خدماتها بما أقامه من حكومة غربية الشكل والقالب ، غريبة نافرة عن المجتمع المسلم . الحكومة الإسلامية المعاصرة لم يتوقف الناس في فكرهم الإسلامي السياسي المعاصر ليسألوا أنفسهم أي النماذج ينبغي للحكومة الإسلامية أن تحتذي ، بل ورثوا وضعا قائما وانصرف جل همهم إلى قضايا أخرىأكثر الحاحا في المسرح السياسي مثل الشورى والديقراطية وما إليها . ولكن يبقى على الناس أن يعيدوا النظر في أساس الحكومة نفسها ويختاروا لأنفسهم ، إما النموذج الذي تطور في التاريخ الإسلامي أو النموذج الغربي ، أو نموذجا معدلا يأخذ من كل بنصيب . ولأن الأمر ليس فيه أبيض وأسود وحلال وحرام ، إذ أنه من أمر السياسة المتروك فيها للناس الخيار بما يحقق المصلحة العامة ، والسياسة الشرعية في كثير من أمورها تدور على المصالح بعد النصوص . ولأن الأمر ليست فيه نصوص قاطعة فالمصلحة هي الحكم . ولكن لعله من البديهي أن كثيرا من العورات قد بدأت تظهر في نموذج الحكومة الغربية المعاصرة والمقلدون في الشرق بدورهم يشكون مر الشكوى من هذه النقائص . من أهم ذلك أن الحكومة تتحمل عبئا أكبر منها ، والخدمات التي تقوم بها تتضخم في كل يوم . وقد أدي ذلك إلى نتيجتين ملموستين في أرقى الدول وأكثرها تقدما ، فما بالك بالدول المتخلفة . النتيجة الأولى هي تدني الأداء في المؤسسات الحكومية ، وثانيتها كثرة المنصرفات الحكومية مما أوقعها في العجز المالي وأرهق المواطنين بالضرائب الباهظة التي تزيد ولا تنقص . وقد لجأت بعض الحكومات خروجا من هذه الأزمة إلى تحويل كثير من خدمات القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص ، الذي عرف عندنا بالخصخصة . وإذا تغاضينا الطرف عن النظر في وجهة الإسلام في أمر الضرائب التي قد يري البعض حرمتها لأنها من المكوس ، فإنه من غير المختلف فيه أن أي طريق لتقليل الضرائب أو التخلص منها نهائيا أمر مرغوب فيه لا محالة . وبدلا من أن تلجأ الدولة إلى القطاع الخاص لحل مشاكلها عن طريق الخصخصة ، فقد يكون من الأولى التحول إلى الحل الذي جربه أسلافنا ويتفق مع قيم الخير والصلاح التي يعرفها المجتمع المسلم . وذلك بتكوين مؤسسات طوعية غير حكومية وإحياء دور الأوقاف ليكون شامخا يشرف على التعليم والصحة والطرق والمواصلات . والأمر قد يبدو عظيما مستغربا لأول وهلة ، لكن من حسناته أنه ينمي الخير في المجتمع ، ويجعله يعتمد على نفسه ، ويجعل الحكومة أقدر بكثير على القيام بدورها الأساسي في التوجيه والقيادة والحراسة للمصالح العامة دون تكليف نفسها بتحمل أعباء لا تطيقها ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها .