أكثر من مقارنة عقدت بين هجوم حركة العدل والمساواة على العاصمة السودانية في العاشر من الشهر الجاري وبين أحداث مشابهة، كانت كلها تقريباً غير دقيقة. أول وأقرب مقارنة كانت بين هذه العملية والمحاولة الانقلابية التي قادتها الجبهة الوطنية بقيادة الصادق المهدي ضد حكم الرئيس النميري في يوليو من عام 1976، ولكن هناك خلافات جوهرية بين المحاولتين، أبرزها أن تلك كانت محاولة انقلابية مكتملة الأركان قادها ضابط سابق في الجيش، ودعمتها أحزاب المعارضة الرئيسة التي كانت تحظى بسند شعبي واسع. أهم من ذلك أن تلك العملية رتبت في سرية كاملة لضمان عنصر المفاجأة، حيث تم تهريب المقاتلين وأسلحتهم ومعداتهم إلى العاصمة مسبقاً، ولم تكن الحركة هجوماً على العاصمة من خارجها. وبالمقابل نجد الحركة الأخيرة افتقدت عنصر المفاجأة، وجاءت قواتها بأجمعها من خارج العاصمة التي سعت لدخولها دخول الغزاة نهاراً جهاراً، وهو ما لم يفقدها فقط عنصر المفاجأة، بل عبأ ضدها العاصمة التي كان لا بد أن ترفض منطق الغزو الخارجي مهما كان مصدره كما يرفض الجسم العضو الأجنبي حتى لو كان ضرورياً لحياته. المقارنة الأخرى الممكنة هي بين محاولة الجيش الجمهوري الأيرلندي في تسعينيات القرن الماضي نقل معركته مع الحكومة البريطانية إلى العاصمة البريطانية لندن بعد أن ظلت المعركة لأكثر من عقدين من الزمان تقتصر على إقليم أيرلندا الشمالية والقوات البريطانية المتمركزة هناك. وهناك مقارنة ثالثة تمت مع هجوم حركات دارفور على الفاشر في أبريل عام 2003، ويمكن توسيع هذه المقارنة لتشمل محاولة الجيش الشعبي لتحرير السودان الاستيلاء على مدينة جوبا في مطلع التسعينيات. ولكن الفرق بين العملية الأخيرة وكل تلك المحاولات هو افتقادها لعنصر الاستمرارية أو قابلية التكرار. ففي كل تلك العمليات السابقة كان لأصحابها الإمكانات اللوجستية لتكرارها: الجبهة الوطنية كانت قادرة على حشد وتدريب المقاتلين واستقطاب ضباط الجيش، كما أن الجيش الجمهوري الأيرلندي كانت لديه الإمكانات لتوجيه ضربات متكررة للعاصمة لندن وتهديد مرافقها الحيوية. وبنفس المنطق فإن الجيش الشعبي في أعوام 1992-1997 كانت لديه من الحشود حول جوبا ما يكفي لحصار عاصمة الجنوب وتدبير الهجمات المتتالية عليها، إضافة إلى قدر كبير من التأييد في داخل المدينة نفسها. أما هجوم حركة العدل والمساواة على الخرطوم فإنه افتقد كل هذه العناصر، وأهمها عنصر العمق الاستراتيجي والذخائر اللوجستية. فقواعد الحركة الخلفية في تشاد ودارفور تبعد آلاف الأميال من العاصمة، وتفصلها عنها مساحات شاسعة من الأراضي المعادية معظمها مناطق مكشوفة. لكل هذا فإن سياسة اضرب وأهرب التي اتبعتها الحركة لا تكفي لنقل حرب الشوارع إلى العاصمة السودانية في غياب خطوط امدادات آمنة وقواعد دعم قريبة. كل هذا ينفي فرضية أن الحركة كانت تسعى للاستيلاء على السلطة في الخرطوم، لأن هذا الغرض كان سيكون أقرب إلى التنفيذ لو أن الحركة هرّبت مقاتليها إلى العاصمة سراً كما فعل قادة حركة يوليو 1976، ولكن الطريقة التي تمت بها العملية ما يمكن أن تؤدي إلى الاقتراب من المواقع الحيوية في العاصمة، ناهيك عن الإمساك بالسلطة. ولعل زعيم حركة العدل والمساواة خليل ابراهيم يعرف أكثر من غيره، وبحكم مسؤوليته السابقة في التشكيلات الدفاعية للنظام القائم مكامن القوة لديه، وكان بوسعه أن يحسب حساب ما لقيته قواته من مقاومة، وأن يدرك أنه حتى لو نجح في الاستيلاء على المواقع الحيوية وهزيمة القوات النظامية في الخرطوم فإن هذا لن يعني الاستيلاء على السلطة، لأن قوات الاحتياط السرية ذات المستويات المتعددة كانت ستتحرك للانقضاض على النظام الجديد. إضافة إلى ذلك فإن تركيبة النظام الحالية ذات طابع لا مركزي من حيث القوات والبنية السياسية. فولاة الولايات هم مسيسون حتى النخاع، وكذلك قادة أفرع القوات النظامية في الولايات. وتحت إمرة القيادات السياسية في تلك الولايات قطاعات كبيرة من قوات الدفاع الشعبي والقوات الأمنية، إضافة إلى قوات الاحتياط السرية. وعليه فإن استيلاء حركة انقلابية على الخرطوم ستجعل تلك القوات تزحف باتجاه العاصمة، وعلى أقل تقدير تخنقها وتمنع عنها الإمدادات. من كل ما سبق يتضح أن استراتيجية حركة العدل والمساواة كانت تفتقد مقومات النجاح من الأساس، إلا إذا افترضنا أنها كانت تعتمد على «طابور خامس» من المؤيدين داخل العاصمة، ومثل هذا الافتراض ينقل الصراع إلى مرحلة غاية في الخطورة. فعلى الرغم من الخطاب الدعائي من بعض أطراف الصراعات القائمة في السودان، وإعطاء هذه الصراعات لافتات عرقية أو دينية أو جهوية، فإن هذه الصراعات ظلت محصورة في نطاق ضيق بين السلطة القائمة والحركات المسلحة، إلا في حالات نادرة اقترب فيها الصراع من العاصمة. على سبيل المثال نجد أن حرب الجنوب لم تجد -إلا نادراً- حماسة شعبية لصالح الحكومات السودانية، بل بالعكس، نجد أن الانتفاضات الشعبية في أكتوبر 1964 وأبريل 1985 أسقطت الحكومات الدكتاتورية القائمة على خلفية سياساتها التي أوقدت نار الحرب في الجنوب. وعلى الرغم من أن الحكومة الحالية نجحت في تعبئة قطاعات واسعة من الرأي العام لدعم حربها في الجنوب تحت شعارات مختلفة، إلا أن قطاعات مهمة وقفت إما على الحياد أو في الخندق المضاد، بينما ظلت الغالبية تتمنى عودة السلام بأسرع ما يمكن. الاستثناءات القليلة -قبل أحداث هذا الشهر- تمثلت في أحداث الأحد في السادس من ديسمير 1964 حين وقعت أحداث شغب من بعض الجنوبيين أدت إلى صدامات واسعة في العاصمة، والمحاولة الانقلابية في سبتمبر 1985 التي اتهم فيها بعض أنصار متمردي الجنوب وأدت إلى قيام مظاهرات مناهضة للتمرد، وأخيراً أحداث الشغب التي أعقبت مقتل زعيم الجيش الشعبي لتحرير السودان جون قرنق في أول أغسطس 2005 وأدت بدورها إلى صدامات بين قطاعات من المواطنين على أساس عرقي. ولكن الملاحظ أن هذه الصدامات، رغم خطورتها وما خلَّفته من صدمة، انتهت بسرعة وعادت الأمور إلى طبيعتها. وهي على كل حال كانت نتيجة انفجارات عفوية ولم تكن نتيجة مباشرة لاستراتيجية سياسية أو عسكرية لأي طرف فاعل. ولكن، إذا صح أن المحاولة الأخيرة كانت تهدف إلى تحويل الصدامات من هذا النوع إلى استراتيجية عسكرية فإن مخاطر كبيرة ستترتب على هذا التوجه، فضلاً عن الشك في مدى نجاعة هذه الاستراتيجية. فإن من شأن هذه الاحتمالات أن تلقي بظلال داكنة على سماء التعايش السلمي بين السودانيين رغم الصراعات المسلحة، بدليل أن خليل ابراهيم قاد هجوماً على العاصمة السودانية دون أن يساوره القلق على مصير أسرته التي تقيم في تلك العاصمة! ومن الواضح أن التعبئة القوية التي انتهجتها الحكومة تسعى إلى التخويف من مثل هذا الخطر، وذلك باستنفار الشعور العام ضد المخاطر الأمنية التي قد تنجم عن اضطرابات أمنية مسلحة أو من تهديد الصراع العرقي. وقد حققت الحكومة نجاحاً كبيراً على هذه الساحة، لأسباب لا تخفى. فالهواجس الأمنية هي من أكبر شواغل المواطن. وقد كان عجز حكومة الصادق المهدي عن فرض الأمن في العاصمة أحد أهم الأسباب التي عجَّلت بسقوطها. من هنا فإن الخطر الأكبر الذي قد ينتج من التطورات الأخيرة هو تحويل الصراع الدائر من صراع سياسي بين حكومة قابضة ونخب سياسية إقليمية طامحة، إلى صراع عرقي بين طوائف السودانيين. ذلك أن لبَّ المشكلة في صراع دارفور، والسبب الكامن وراء ما حققه من دمار غير مسبوق، هو تحوله إلى صراع عرقي من هذا النوع، ولكن في داخل دارفور نفسها. وهو في هذا يختلف عن صراع الجنوب الذي تم احتواؤه إلى حدٍّ كبير في إطار الصراع السياسي، كما تكشف التحالفات التي تمت وتتم بين القوى الجنوبية والشمالية. ولا شك أن انتقال صراع دارفور إلى مرحلة الصدامات العرقية على المستوى القومي سوف تكون له عواقب وخيمة على الجميع. كل هذا يدعو إلى مراجعة شاملة لأطروحات التهميش التي بشَّر بها الجيش الشعبي لتحرير السودان قبل أن تتحول إلى ما يشبه المسلمات. فكما أسلفنا فإن النظم الدكتاتورية هي بالتعريف تهمش كل المواطنين، حتى وهي تتظاهر بتفضيل بعضهم اتباعاً لسياسة فرِّق تسد. من هنا فإن الحل الأمثل للأزمة السودانية لا يكمن في تحالف العناصر المسلحة من الأقاليم التي تشكو التهميش مع الدكتاتوريات التي تهمش الجميع، كما حدث في اتفاقية أديس أبابا وإلى درجة أقل في اتفاقية نيفاشا وأبوجا، إلا إذا كانت هذه الاتفاقيات تمهيداً لبناء تحالفات واسعة ذات طابع ديمقراطي تحفظ حقوق الأقليات بدون أن تهمّش الأغلبية. وقد التفتت حركة العدل والمساواة بعد فوات الأوان إلى هذه الضرورة فأخذت تتحدَّث عن التحالفات السياسية بعد صدور الإدانات شبه الجماعية من القوى السياسية للأحداث الأخيرة، وهي إدانات من التبسيط تفسيرها على أنها محاولة للتقرب من الحكومة، لأن هذه القوى السياسية لا بد أن تأخذ في الاعتبار مشاعر وهواجس قواعدها والرأي العام في البلاد. ويحتاج الأمر إلى أكثر من إطلاق الشعارات أو إطلاق الرصاص، ولا بد من رؤية متكاملة توائم بين مطالب الأقليات التي تعاني الظلم والأغلبية التي تواجه الحرمان من حقوقها الديمقراطية، وهي مواءمة لن تواجه صعوبة لأن الأغلبية كما ذكرنا لم تعارض يوماً حقوق الأقليات، بل بالعكس، كانت الانتفاضات تقوم دائماً في السودان ضد الظلم ضد أي كان. وأضعف الإيمان في هذا المجال ألا تقوم الحركات التي تدافع عن حقوق المهمشين بما يقوي الدكتاتوريات ويستعدي الأغلبية التي تتعاطف معها وتشاركها في الحرمان عبر أفعالها وخطابها الذي كثيراً ما يتهم ضحايا الدكتاتورية ظلماً بأنهم شركاؤها في القمع.