تعتبر مراكز الابحاث والدراسات الامريكية بؤرا أساسية في وضع وبلورة السياسات التي تتبناها الادارات المختلفة وذلك لأنها تعلي من الجانب المهني والعمل على أستيعاب مختلف الاراء كما انها تضع هذه الدراسات بعيدا عن ضغوط العمل التنفيذي والسياسي المباشر وأهم من ذلك ان معظم المشاركين في هذه الدراسات ممن يتبعون أسلوب الباب الدوار أي انهم يعملون في وظائف تنفيذية أحيانا ليغادروها الى العمل باحثين في هذه المراكز قبل العودة مسؤولين في هذا الادارة أو تلك وفي مناصب أرفع. في العام 2001 وبعد أعتماد تعيينه مساعدا لوزير الخارجية للشؤون الافريقية قام والتر كانشتناير باقناع أدارة بوش أن تعتمد تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الذي اشتهر بفكرة "دولة ونظامين" أساسا لسياستها تجاه السودان ثم سافر الى نيروبي للآلتقاء بجون قرنق وأقناعه بأحد توصيات ذلك التقرير وهي أستبدال استراتيجية الحركة القائمة على وقف تصدير النفط بأستراتيجية الدخول في عملية سلام جدية واقتسام عائدات النفط، وهو ما فتح الباب أمام عملية السلام التي أصبح قسمة الثروة أحد معالمها الاساسية. ولهذا يفترض أن تحتفي الحكومة بتقرير مجلس الاطلنطي الذي صدر هذا الشهر أيما أحتفال خاصة وهو يصدر عن مركز دراسات سياسي مستقل ومن مجموعة عملت في السودان وتعرفه عن قرب وهي تسعى الى استكشاف نقاط الالتقاء المصلحية بين واشنطون والخرطوم وهو ما ينبغي أن تكون عليه علاقات الدول، الامر الذي يعطيه مصداقية ويوفر للحكومة منصة أنطلاق لآحداث أختراق في الساحة الامريكية بعد سنوات من العداء وبما يتجاوز قضية رفع العقوبات الانية. يعود تأسيس مجلس الاطلنطي الى العام 1961 لتعزيز العلاقات بين جانبي المحيط ولو انه توسع فيما بعد واضافة برامج واقتراح سياسات مثل زيادة وتفعيل الدور الياباني في السياسة الدولية وغير ذلك. تمكن المجلس من استقطاب العديد من الشخصيات المؤثرة التي عملت في مراكز رفيعة في مختلف الادارات ومتجاوزا للأطر الحزبية مثل جيمس جونز الذي كان رئيسا للمجلس وتركه ليتولى منصب مستشار الامن القومي للرئيس باراك أوباما، كما عمل فيه برنت سكوكروفت الذي كان مستشارا لبوش الاب، وشاك هاقيل الذي عمل وزيرا للدفاع وسوزان رايس وغيرهم. التقرير جاء تحت أسمي بيتر فام مديربرنامج أفريقيا في المجلس ويتردد أسمه مرشحا ليتولى منصب مساعد وزير الخارجية للشؤون الافريقية أو مبعوثا خاصا وكذلك السفيرة ماري كارلن ييتس التي عملت في السودان قائمة بالأعمال بالانابة في 2011/2012. معدا التقرير استعانا بمجموعة تضم خمسة من لهم صلة وثيفة بالسودان وهم السفير تيم كارني أخر سفير أمريكي معين للسودان، وبرنستون ليمان المبعوث السابق، وجيري لانيير القائم بالآعمال الاسبق وجوني كارسون الذي عمل مسؤولا عن الشؤون الافريقية في الخارجية وكاميرون هدسون وعمل من قبل في مجلس الامن القومي مسؤولا عن بعض القضايا الافريقية. التقرير المعنون: "استراتيجية لآعادة الارتباط والتعاطي مع السودان" أستمر العمل فيه لفترة 18 شهرا تخللتها زيارات الى السودان ينطلق من فكرة التعاطي الايجابي وعبرها ومن خلالها تنتثر في التقرير بعض التوصيات والاشارات ذات البعد الاستراتيجي المتعلقة بالسودان من ناحية وبعضها يرد لآول مرة في تقارير أمريكية مثل التركيز على الوضع الجيوستراتيجي للسودان وأمكانية قيامه بدور مؤثر وأستشهد بمشاركة السودان في حرب اليمن والتصدي لآيران وأيضا بحقيقة ان السودان أستقبل 375 ألفا من اللاجئين من جنوب السودان و 100 ألف من سوريا. ويمضي التقرير للتوصية بضرورة النظر الى علاقات الولاياتالمتحدة والسودان من خلال المتغيرات الدولية والاقليمية وليس عبر مجهر العلاقة الحصرية مع جنوب السودان. ويشير التقرير الى ان المجاعة تضرب منطقتين في جنوب السودان الذي يعاني من حرب أهلية والمجاعة في أجزاء عديدة من الصومال كما تعيش أثيوبيا حالة طواريء متطاولة والتعقيدات السياسية لسد النهضة والانتخابات الرئاسية الكينية وكلها عوامل عدم استقرار يمكن أن تكون لها تبعاتها على الاقليم في مجالات الاغاثة والهجرة وهو ما يضيء وضعية السودان من باب الاستقرار النسبي الذي يتمتع به ويزيد من المخاطر فيما اذا وقع السودان في نفس الدائرة، الامر الذي تحتاج السياسة الامريكية الى وضعه في الاعتبار. من النقاط المهمة التي اشار اليها التقرير أهمية أن تضع التوجهات تجاه السودان في اعتبارها السودانيين العاديين ومعاناتهم مع المقاطعة والعمل على التخفيف عنها والتواصل معهم لآن في ذلك خدمة للمصالح الامريكية على المدى البعيد خاصة وهناك حوالي 22 مليونا من سكان البلاد تحت سن 24 من العمر وتحتاج الولاياتالمتحدة المتحدة الى الاستثمار فيهم اضافة الى نحو 44 ألفا من السودانيين المقيمين في الولاياتالمتحدة ويمكن أن يمثلوا جسرا لعلاقات البلدين. أختتم التقرير بثمانية عشر توصية من أبرزها تعيين سفير للسودان معتمد من قبل الكونجرس ودعمه بموارد مادية وبشرية ليتمكن من أحداث الاختراق المطلوب، والعمل على مراجعة مختلف أنواع العقوبات التي يخضع لها السودان وهي تتلخص في أربعة أوامر تنفيذية وثلاثة قرارات من الكونجرس وبدء اجراءات رفع السودان من قائمة الدول الراعية للآرهاب التي تحتاج الى ستة أشهر من بدء مراجعة الموقف وأخطار الكونجرس بذلك لأن وضعه تم في فترة كانت العلاقة الثنائية في اطار مختلف خاصة والخرطوم أبدت تعاونا كبيرا في السنوات الاخيرة وهو ما يتطلب المراجعة علما ان كوريا الشمالية قد أزيلت من القائمة رغم عداءها وبرنامجها النووي المقلق لواشنطون، بل وتمضي التوصيات وتضيف حتى مراجعة وجود أسم السودان في قائمة القرار الخاص بالسفر الذي أصدره ترمب. هذه الدراسة المركزة في صفحات قليلة (34 بما فيها الملاحق) تحتاج الى أهتمام بترجمتها ونشرها على أوسع نطاق داخليا في البداية عبر الحوار السياسي حولها لبلورة موقف عام يمكن أن يكون منطلقا لبناء تفاهمات في عديد من القضايا التي تواجه البلاد. وأهم من ذلك اتخاذ هذا التقرير منصة للدخول الى الساحة الامريكية لتسليط المزيد من الاضواء حول علاقات البلدين الثنائية وأجراء المناقشات في مختلف مراكز الابحاث وأن يصحب ذلك مساهمة سودانية تنطلق من الرؤية التي تمت بلورتها تجاه التقرير ومن شخصيات سياسية وفكرية لها القدرة على التعامل مع الساحة الامريكية، والاستفادة من حقيقة غياب أي سياسة أمريكية تجاه السودان. فأخر ما تم في هذا الصدد الدراسة التي أشرفت عليها سامنتا باورز في العام 2009 وكانت تتحرك من منطلقات وقتية بتركيزها على انهاء الصراع في دارفور والا يصبح السودان ملجأ للآرهابيين وعلاقات السودان بجنوب السودان التي كانت محكومة بالانفصال المتوقع أكتماله في غضون عامين. وأول خطوة في هذا الاتجاه أعادة تفعيل نشاط اللجنة العليا التي كانت مكلفة بالملف الامريكي وتوسيع نطاق عملها من قضية رفع العقوبات فقط الى العلاقات بين البلدين وكيفية الدفع بها واذا كانت هذه اللجنة يمكن أن توفر الاطار السياسي والاداري الا ان ادارة هذه الملف تحتاج الى لجنة أكثر تخصصا ومهنية وأقل أنشغالا من الوزراء الذين يشكلون اللجنة العليا وأن تبدأ عملها ببرامج سريعة لتغطية الفترة المتبقة حتى المراجعة في أكتوبر والتعامل مع القضايا الاعقد من ازالة أسم السودان من قائمة الدول الراعية للآرهاب وموضوع أعفاء الديون، ومع ان السفارة في واشنطون تعمل على هذه الموضوعات الا ان وجود مساندة من الخرطوم بموارد وأفق سياسي ووطني أعرض سيساعد على تحقيق نتائج أفضل. ويبقى الاساس لنجاح أي جهد خارجي جبهة داخلية متواءمة مع نفسها وهو ما يحتاج من الحكومة عمل ضبط لاحاديثها الفضفاضة حول السلام وتحسين الوضع الاقتصادي واصلاح الدولة الى برامج عمل ملزمة. فالحلول معروفة والغائب الاكبر هو الارادة السياسية ولعل فيما جرى ويمكن أن يجري مع واشنطون ما يدفع الى تحويل المشكلة الى فرصة... لعل وعسى.