تصاعد نبرة التصريحات الرسمية لطبقة القيادات المتنفذّة في المؤتمر الشعبي تواطئ سنة النظام الحاكم وتؤكد موقفها الثابت في دعم سلطته وتمام شراكته إلى آخر الشوط، تقرن ذلك بتمام الرجولة والأخلاق، أوقع ذلك ريباً مصاعداً في صف القاعدة لا سيما قطاع الشباب الذي يبدو أنه آيس من كل فرصة للاصلاح فاتجهت مجموعات منه نحو تشكيل تيار مجتمعيٌّ يتأسس على قِيم الإسلام وما يتّسق معه من مكتسبات تجربة الإنسان، وتداعى من بينهم نفر مهموم بالقضايا الوطنية الملحة وتواطؤوا على إطلاق "مبادرة البناء والعدالة" تعمل على تبنى خطة عمل سياسي سِلمي يسلك سبل المدافعة والمناظرة والحوار الجانح للسِلم في المجال العام من أجل الارتقاء بكرامة الإنسان وتحقيق رفاهيته وضمانِ أمنه وسلامه، وفق إعلان رسمي عن ذلك التيار الذي يجسد حالة التعازل التي تجري داخل هياكل المؤتمر الشعبي وعضويته. كما ظلت سلطة الإنقاذ تبدد فرص الحل السياسي المتوالية وتهدر كل سانحة لتسوية أزمات السودان التي تفاقمت في عهدها فبلغت مدى يتهدد أصل كيان الوطن من بعد انشطاره على أيديهم، كذلك ظل المؤتمر الشعبي، التوأم السيامي لحزب الحكومة، رهيناً لتصورات لم تتبدل منذ أول يوم تأسيسه ليس فقط بمكث ذات القيادات التي حملت الجيش إلى السلطة إنما من خلال استمرار تبني أصول الخطاب الذي يتمسك بشرعية الإنقلاب العسكري وصواب القرار الذي أطلق تدابيره، مهما أقرت القيادة بخطل اجتهادها في الاستعانة بالعسكر، واعترافها في المنابر المفتوحة أنه خطيئة، من الكبائر، فادحة تستوجب الاستغفار فإنها ظلت تجانب الإعتذار للشعب أو اعتزال القيادة لأجيال جديدة لا تحمل وصمة تقويض الديمقراطية. لكن المؤتمر الشعبي، منذ انخرطت قيادته في مشروع الحوار الوطني (يناير 2014) اختار أن يحمل أوزاره كاملة ومن أوزار سلطة الإنقاذ، حينما اتخذ قرار الالتحاق بالسلطة وهو ذات الموقف الذي يؤكد أن أكثر الإسلاميين لم يستوعب دروس المفاصلة كما يؤكد أن القلة الذين انعطفوا إلى جانب الشيخ ساروا في ركابه، لا إيماناً وقر في صدورهم بالحرية الطلقة التي ظل يعبّر عنها الشيخ الترابي وإنما تسوقهم عاطفة متمكنة وعصبية إلى القيادة التاريخية للحركة، لكن هؤلاء اليوم يستمسكون بموقفهم المنحاز إلى الجانب الخاطئ من التاريخ، مهما غشيت نظام الطاغوت الذي يشاركونه هبة الشعب الثائر المنتفض على جلاديه إنّما يعمّقون الهوة التي نشأت بينهم وبين قطاعات قواعد التنظيم التي انخرطت بكلياتها ضمن حراك الشعب وثورته، تاركين طبقة القيادات المستكينة إلى حلف السلطة الفاسدة، تهيم في واد غير ذي زرع تطارد أوهام الحوار الوطني الكذوب. غلب على أحوال المؤتمر الشعبي عشية انتقال الشيخ الترابي إلى الرفيق الأعلى، شعور طاغي بالحنين ظل يسكن "وجدان الجماعة" يشدهم لماضي الحركة الإسلامية مقروناً بتراث الشيخ، في السياسة، لا يطيقون إلا أن يرونه برنامج عمل لا يخرجون عنه قيد أنملة، هكذا يقول أمثلهم طريقةً، على نحو المقاربة الشائهة التي أنتجها الفريق الذي تناهى فهمه للمنظومة الخالفة أنها محض عَودٌ أبديٌّ للحركة الإسلامية. التقى أولئك في الطريق بمجموعة الموادعة والتطبيع التي ظلت، كذلك، تحن إلى المشاركة الكاملة في السلطة، ومنهم من لم يكن لصيقاً بجملة حراك المؤتمر الشعبي في ساعة عسرته جاء الترابي لحظة الإقبال على ساحة الحوار الوطني. لكنهم اليوم ينتظمون جميعاً في منازعة الأمين العام ويرفعون أمامه شعار إقامة النظام الخالف ويقدحون في ترتيب أولوياته التي يجدونها تنصرف عن طلب الحريات العامة إلى أجندات أخرى ويلمزون أنه يكاد يركن إلى عشيرته ومنطقته، على نحو ما بدا في مكتوبات قيادات اعتزلت التنظيم باكراً وهمهمات آخرين من دونهم، لكن شناعة ذلك الخطاب وإنكاره عليهم عجل بكساده وسقوط دعواه. كذلك اتَّسمت العلاقة بين الأمين العام ونائبه لأول فور تشكيل هيكل أمانته اتسمت بتمام التنافر، تستدعي روح المناوءة حول مختلف الأجندات إلى حين استقالته في تعبير واضح عن تلك التباينات، لكن جملة تلك التنازعات و"التفاعلات الموضعية" مهما تكن أقعدت المؤتمر عن أي فعل يكافئ الآمال التي انعقدت عليه فإنها أوقعت ريباً شديداً في نفس الأمين ودفعته لأن يستسر بغالب أمر التنظيم إلا من خواصٍ يجتبيهم لشوراه الأمر الذي أوقعه في شبهة الانفراد بالأمر دون الجماعة وجر عليه نقمةً مزيدةً، وشاب كامل أدائه السياسي الذي بات واهناً مرتبكاً. بإزاء ذلك جاءت رؤية الأمين العام ذات بُعد قومي ترمي لإيقاع تسوية سياسية للنزاعات المسلحة تضع أوزار القتالات الأهلية المستعرة على طول الهامش الأبعد عن ساحة المركز، لكنها بادرة، مهما تكن مدخلاً ضرورياً يتهيأ بها المشهد العام نحو تمام التحول السياسي في البلاد، فإنها لن تتحقق إلا في ظل ممارسة عامرة بالشفافية والمصداقية ملتزمة بإتاحة الحريات العامة. تعاليَ وقع الخلافات داخل أجهزة التنظيم لا سيما من بعد ركونه إلى المشاركة في السلطة دفع بأعداد كثيفة من عضويته، لا سيما الشباب، إلى مجانبة نشاطه، لكن وقع الحادثات بساحة الوطن الأكبر لا تفتأ تدفعهم تارةً أخرى مدّاً وجزراً يعبرون في كل مرّة عن مواقفهم بالمذكرات الاحتجاجية التي ترجو إقامة التنظيم على جادة طريق الخلاص الذي يتصورونه حتى تكاثفت مذكراتهم على نحو يشبه الظاهرة، لكنهم في لحظة الثورة الشعبية يجانبون موقفه الرسمي المتجانف إلى تأييد النظام ينخرطون في حراك الشارع والجماهير فتتجاوب طبقة القيادات بإعلانات البراء عن كل مشاركة في حراك الشعب. هكذا يقف المؤتمر الشعبي مثقلاً برؤى متباينة، تبطل فاعليته، شريكاً في سلطة تتهددها الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة، لا تبالي مجموعات الشباب التي آيست من الاصلاح أن تدعو إلى عزل ذات الأمين العام والدعوة لمؤتمر عام استثنائي بينما تنمو شكوكها يوماً بعد يوم في أنّ طبقة القيادات التالدة في المؤتمر الشعبي تملك عزماً أكيداً أو أفقاً متسعاً يمكنهم من استكشاف اتجاهات جديدة في عوالم الفكر والسياسة ليتمكنوا من التصدي لتحديات المستقبل وإنتاج رؤى وتصورات جديدة تتصوب نحو معالجة القضايا التي ظلت غائبة ومؤجلة لا يلتفتون إليها إذ كانوا على الدوام تحت ظل وقيادة الشيخ المفكر الملهم في أحسن أحوالهم محض ناشطين في الشأن التنظيمي والسياسي اليومي لا يجاوزونه مدى.