اثارت أطروحة رئيس الوزراء د. عبدالله حمدوك حول الأحزمة التنموية الخمس للسودان ردود فعل وأصداء واسعة، نشير لبعض منها هنا مع حفظ الألقاب: كتب عنها السر سيد احمد مقالاً تحت عنوان "من الانشغالات الصغرى الى الأسئلة الكبرى" نشر بتاريخ 13 يونيو 2020, ومن ثم نشر عطا البطحان تعقيبا على مقال السر بتاريخ 15 يونيو 2020؛ وايضاً نشر عثمان ميرغني تعقيباً على مقالة السر بتاريخ 18 يونيو. كمًا شهدت لقاء تلفزيونياً رحب فيه جمعة كندة بأطروحة الأحزمة الخمس لرئيس الوزراء. على صعيد متصل نشر حيدر ابراهيم على مقالاً بتاريخ 11 يونيو 2020 معلقاً على أطروحة حمدوك ومشيداً بإبداء اهتمام واضح بقضية التنمية من قبل راس السلطة التنفيذية. وهنالك على ما فهمت تعليقات اخرى، وصلت مباشرة لبريد الكتاب، وبعضها من متخصصين فى مسائل التنمية. اشتملت أطروحة حمدوك، كما هو معلوم الان، على فكرة خمسة أحزمة تغطى كل أنحاء السودان: يشمل الحزام الاول مناطق التمازج (وليس التماس) مع دولة جنوب السودان التي توجد معها اطول حدود مع دولة مجاورة؛ والثاني حزام الصمغ العربي ويغطى كامل منطقة الساڤنا من النيل الأبيض الى حدود السودان الغربية؛ والثالث حزام الأنهار ويشمل منطقة الوسط ونهر عطبرة؛ والرابع حزام المحاصيل النوعية في ولايتي نهر النيل والشمالية؛ والخامس حزام منطقة البحر الأحمر والتي تتطلب وضعاً ادارياً خاصاً، اقترح لها رئيس الوزراء انشاء مفوضية خاصة بها نسبة لتشابك قضايا المنطقة المحلية مع قضايا إقليمية ودولية ذات بعد جيوإستراتيجي. بالطبع ننتظر من رئيس الوزراء تطويراً وتفصيلاً لهذه الرؤية التنموية الشاملة وكيفية مقاربتها عبر مشاريع محددة تنزلها على ارض الواقع. على انه يمكن التقدم ببعض الملاحظات الأولية على سبيل دفع النقاش فى هذه القضية الحيوية. الشيء البارز فى أطروحة الأحزمة التنموية الخمس هي انها تشمل السودان كله مع شيىء من التركيز على الأقاليم البعيدة عن المركز وهي بالتالي تجترح نهجاً جديدًا يطرق أبواب التنمية بعيدًا عن محور الخرطوم -سنار -كوستي () المألوف والموروث من ايام الاستعمار. وبالتالي فان هذه الدوائر التنموية المتعددة يمكن ان تعالج متلازمة المركز والهامش التي أناخت بطلها الثقيل على السودان منذ استقلاله. بل ان هذه الرؤية التنموية الجديدة إذا احسنت ادارتها وتحققت مآلاتها فإنها يمكن ان تقوض الأرضية التي أنبتت متلازمة المركز والهامش. على صعيد متصل فان الأحزمة بامتداداتها الأفقية والطولية والعابرة للحدود الإدارية والحواجز الاثنية واللغوية والثقافية مرشحة لان تسهم وبصورة عملية وأكثر نجاعة في بناء الوحدة الوطنية. لقد رأينا كيف تحولت مدن مثل الخرطوم، بورتسودانوعطبرة، وحواضر مشروع الجزيرة -على سبيل المثال -الى متروبولات' تقطنها مجموعات وإثنيات من كافة ارجاء البلاد (لكن بالطبع ظلت الهيمنة السياسية والإدارية والاقتصادية في هذه الحواضر منحصرة فى مجموعة وسط وشمال السودان). يمكن تحقيق مقاربة مختلفة في الرؤية التنموية الجديدة قوامها ربط مجموعات واقوام مختلفة بعجلة التنمية وفوائدها وهي في مكانها؛ وايضاً يمكن ان تستصحب هذه المقاربة المستجدة الإطار المفاهيمى للتنمية المستدامة القائمة (اجندة 2030) على عدم التمييز، احترام حقوق الانسان، و "الا يترك أحد خلف الركب". إلى ذلك فمن البداهة، ان الأحزمة الخمس لا تعنى مشروعاً واحداً لكل حزام بل ان بالإمكان تنفيذ أكثر من مشروع وربما عدة مشاريع في كل حزام. فعلى سبيل المثال حزام الصمغ العربي هو ايضاً حزام الثروة الحيوانية، كما الزراعة المطرية، وبالتالي يمكن ان تستهدف مناطق هذا الحزام بعدة مشروعات تنموية بحسب الموارد المتوفرة فيه مع ضرورة التشاور مع السكان المحليين. لعل التحدي الاكبر في أطروحة الأحزمة التنموية الخمس هذه هو موضوع التمويل اللازم لإقامة المشاريع وتفجير مكائن الثروات في مختلف هذه المناطق. لا أنوي الدخول في نقاش تفصيلي في هذه النقطة اذ ان الوقت لا يزال مبكراً على نقاش مثل هذا، وانما سأكتفي بإيراد ملاحظة او اثنتان في هذا الموضوع. يرتبط التمويل بالطبع بنوعية المشاريع الواجب تنفيذها في هذه المنطقة او تلك: ففي حزام الأنهار مثلاً والذي يتميز بوجود العديد من المشاريع الزراعية العريقة، فان الاستثمار المطلوب ربما سيركز أكثر على تحقيق التوسع الرأسي للإنتاج الزراعي وإبداء اهتمام أكبر للصناعات التحويلية، وتحسين الميزة التفاضلية لصادرات السودان التي تنتج في هذه المناطق. اما النقطة الأخرى في موضوع التمويل فهي تتصل بالنموذج التنموي المطلوب في المناطق "البكر" التي لا تزال تفتقر لمشروعات تنموية: هل سيكون التوجه نحو إقامة مشروعات تنموية كبرى على غرار مشروع الجزيرة، وهو النموذج التنموي الذي ظل ديدن الخطط السودانية منذ الاستقلال الى مطلع الثمانينات، مع مايقتضيه هذا النوع من المشاريع من تكلفة انشائية وتشغيلية عالية؟ ام يكون الاتجاه نحو نمط اخر يستهدف إنشاء العديد من المشاريع الصغيرة او المتخصصة على أساس من الشراكة بين القطاعين العام والخاص الى جانب الاستثمار الأجنبي المباشر. صفوة القول انه لا بد من دراسة كافة الخيارات بذهن مفتوح واختيار ما هو أقرب لإمكانيات البلاد الراهنة وفى نفس الوقت أكثر قدرة على تحقيق الأهداف التنموية المنشودة. فيما تبقى من هذا التعقيب اود التوقف عند مسالتين: تتعلق الاولى بالعلاقة بين السلام والتنمية والتي تطرق اليها السر في مقالته آنفة الذكر. السؤال الجوهري هنا يتعلق بحتمية انتظار انجاز السلام قبل الشروع في أية عملية تنموية. للسودان تجاربه المعلومة في هذا المضمار. اذ توقف العمل في أكبر مشروعين تنمويين فى الجنوب -مشروع قناة جونقلى والتنقيب عن النفط بواسطة شركة شيفرون -بمجرد تفجر الحرب الأهلية الثانية فى الجنوب عام 1983. بعد ذلك بسنوات قامت حكومة البشير باستخراج النفط عام 1999 برغم ظروف الحرب مستغلة في ذلك الانشقاق الذي اصاب الحركة الشعبية لتحرير السودان، والانتصارات العسكرية التي أحرزتها ضد الحركة والتي مكنتها من تامين مناطق حقول النفط. ومع ذلك ظلت صناعة النفط في دائرة الخطر، خاصة وان الحركة الشعبية اعتبرتها اهدافاً عسكرية مشروعة. ظلت الاحوال على هذا النحو الى أن تمكنت الوساطة الأمريكية بقيادة دانفورث من إقناع الراحل جون قرنق بان الأفضل حصول الجنوب على نصيب من عائدات النفط بدلاً من محاولة القضاء على الصناعة النفطية التى تمكن نظام الخرطوم من إنشائها برغم ظروف الحرب. النتيجة الاولى التي يمكن الخروج بها من هذا السرد هو انه بالإمكان إقامة مشروعات إنتاجية برغم ظروف الحرب؛ على ان ما قام به النظام السابق لا يجوز الاقتداء به بأية حال، اذ حفلت التجربة بقدر كبير من العسف والكلفة البشرية، والاستخدام الجائر للبيئة، فضلاً عن أن الغرض لم يكن حقيقة تنمية الإقليم الجنوبي بقدر ما كان الاستفادة من عائدات النفط في تقوية شوكة النظام. لعل الدرس المستفاد من هذه التجربة هو الوجهة التي تتبناها الحكومات فيما يتعلق بالمشروعات الاستراتيجية في مناطق النزاع، ومدى انسجامها مع تطلعات ابناء المنطقة. النتيجة الأخرى التي يمكن الخروج بها من تجربة استخراج النفط في جنوب السودان، هو ان استثمار النفط لعب دوراً معتبراً في الوصول لتسوية سلمية لحرب الجنوب. قياساً على هذه التجربة، فان ثمة إمكانية في ان يلعب وعد التنمية دوراً في الوصول الى تسوية سلمية في مناطق النزاع حالياً في دارفور، جنوب كردفان والنيل الأزرق؛ وان يسهم انجاز التنمية في حزام التمازج والأحزمة التي تليه جغرافياً دوراً كبيراً في بناء سلم دائم. هذا النقاش ينقلنا مباشرة للنقطة الأخرى وهي تتعلق بمسالة "القهر التنموي" التي اثارها عطا في معرض تعقيبه على مقالة السر، حين تساءل: "ألا يتطلب تنزيل المشروع التنموي القومي على الأرض درجة من قهر الدولة -خاصة ومعظم مقترحات المشروع القومي التنموي تستبطن دوراً للدولة التنموية؟". أشار عطا في هذا الصدد عند تجارب مصر الناصرية، وإثيوبيا زيناوى، باعتبارهما نماذج للقهر التنموي؛ وبالطبع هنالك نماذج اخرى لعل أبرزها تجربة روسيا السوفيتية ايام ستالين. بصفة عامة، هنالك رأى رائج بان الدولة التنموية لا مكان فيها لاحترام حقوق الانسان؛ وكثيراً ما يتم التدليل على ذلك بتجربة النمور الآسيوية التي حدث نهوضها الاقتصادي في مناخ من الاستبداد السياسي. شخصياً، لا اؤيد أطروحة الارتباط الشرطي بين القهر والتنمية. ثمة العديد من التجارب، والسودان على رأسها، اخضعت فيها الشعوب لقهر متطاول (52 سنةً في حالة السودان) ولم تجن من التنمية شيئاً يذكر، رغم ان قدراً من التسلط مورس باسم التنمية، كما هو الحال على ايام النميري فى السودان. بالمقابل هنالك دول نهضت اقتصادياً دون ان تضطر لمصادرة الديمقراطية كما هو الحال في تجربة الهند (التي اوردها عطا نفسه في معرض إشارته لآراء امارتيا سن)؛ ويمكن ان نضيف ايضاً نماذج ألمانيا واليابان بعيد الحرب العالمية الثانية فكلاهما نهضتا من تحت رماد الحرب لتصبحا من أكبر سبع اقتصاديات فى العالم مع احتفاظهما بأنظمتهما الديمقراطية. على ان السؤال الجوهري هو: لماذا يكون القهر مطلوباً لانطلاقة قطار التنمية؟ هل ان قهر الدولة مطلوب للقضاء على أي معارضة لمشاريع بعينها قد يحتج سكان بعض المناطق المتأثرة بها لأنها قد تضر بنمط عيشهم التقليدي لكنها "ضرورية" لنهضة البلاد القومية؟ ام ان قهر الدولة مطلوب لإنجاز سرعة البت في القرارات التنفيذية واعتماد السياسات والإجراءات اللازمة لإنجاز المشروعات؟ ام هل تتعلق المسالة بضرورة تمرير، او فرض رؤية تنموية شاملة لنهضة الوطن مستقبلاً وفى سبيل ذلك لابد من حسم أي معارضة حادثة او محتملة يمكن ان تعرقل وضع الرؤية التنموية موضع التنفيذ؟ فد تتباين الأجوبة عن هذه الأسئلة طبقاً لتباين الرؤى والتصورات لما يجب ان يكون عليه المشروع الوطني، وما المطلوب لتحقيقه. على إنني ارى ان أي مشروع تنموي لا يكون الانسان محوره، لن يكون قادراً على تحقيق النهوض الوطني المنشود، بل ربما يبذر بذور نزاعات مستقبلية. الخلاصة يمكن ان تكون أحزمة حمدوك الخمس مدخلاً للتداول بقصد التوافق على رؤية تنموية شاملة للبلاد خلال المرحلة الانتقالية عبر مختلف المنابر -من مفاوضات السلام، الى المؤتمرات الاقتصادية الى المؤتمر الدستوري. إذا تمكنت الفترة الانتقالية، بالإضافة لمطلوباتها الأخرى، من انجاز قدر من التوافق، أو حتى مجرد التداول حول رؤية تنموية شاملة، سنكون بالفعل قد دشّنا نقلة نوعية في طريق النهوض الوطني.