دولة جديدة، كبيرة بقياسات الجغرافيا العربية، ولدت أول من أمس، من رحم السودان، الدولة الأكبر مساحة في الوطن العربي، والتي تعلّمنا تاريخياً أنها تحتوي على ثروات تجعلها مؤهلة لأن تكون سلة غذاء الوطن العربي لكنها فشلت في أن تؤمن الغذاء لسكانها. ليس السودان، البلد العربي، أو غير العربي الوحيد الذي تتّسم تركيبته الاجتماعية بتنوع اجتماعي وقومي وعرقي، أو بمشكلات وأزمات داخلية، وليس السودان متفرّداً في مستوى فقره وتخلّفه، حتى يكون مؤهّلاً لانقسام مؤلم كالذي وقع. الصراع الدامي المسلّح في السودان بين قوى سياسية معارضة اتخذت من الجنوب مرتكزاً، ومن التحرير هدفاً، وبين الدولة المركزية، ترافق مع البدايات الأولى لمرحلة الاستقلال، وتزامن مع السنوات الأولى لقيام دولة إسرائيل على الجزء الأكبر من أرض فلسطين التاريخية. ومنذ وقت طويل، كان محظوراً، على السياسيين العرب، ولأسباب تتّصل بأخلاقيات قومية هشة، كان محظوراً الحديث على نحو مباشر عن دور، ووجود لإسرائيل، في الجنوب السوداني، ودعم للحركة الشعبية التي ترأسها الراحل جون غارنغ وتورثها سلفاكير، ذلك أن هذه الإشارات بدأت تظهر مؤخراً. حتى النظام العربي الرسمي، بما في ذلك الدول المتضررة جداً من الوجود الإسرائيلي، الذي ينطوي على أهداف استراتيجية، حتى ذلك النظام لم يبادر إلى فضح الدور الإسرائيلي وحلفاء إسرائيل في تغذية عوامل الصراع الداخلي منذ زمن مبكر. لقد تستّر النظام السوداني والنظام العربي على ذلك الوجود والدور الخطير، الذي تلعبه إسرائيل في منطقة استراتيجية حسّاسة، ولتحقيق أهداف بعيدة المدى، في التأثير على حصص الدول المطلّة على نهر النيل من المياه، خصوصاً مصر الدولة العربية الأكبر، والتي على مدى قوتها أو ضعفها، يتحدد مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي. ويتذكر الجميع، فضيحة الاتفاق السري الذي تستّر عليه نظام النميري وأدى إلى نقل آلاف اليهود السودانيين إلى إسرائيل، من دون أن يؤدي ذلك إلى ردود فعل عربية مناسبة، وكان ذلك مؤشراً على قوة النفوذ الإسرائيلي في جنوب السودان، خصوصاً وعلى ضعف الدولة المركزية السودانية. وبالمناسبة، فإن بعض الدول العربية التي تشهد صراعاً قومياً مماثلاً ومرشحة في ظروف لاحقة لأن تلاقي مصير السودان، تعاني هي الأخرى من وجود إسرائيلي مبكر، يلعب دوراً في تأجيج تلك الصراعات، وتقديم الدعم لبعض أطرافه، لكن إسرائيل التي ترفض حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، لا يخدمها الإعلان عن حضورها ودعمها لمثل هذه الحركات القومية، وتحرص على أن يظل دورها سرياً. ونلاحظ أن إسرائيل التي يغمرها الفرح لنجاح دورها في الوصول إلى هدف تقسيم السودان، وتأمين حضور وتأثير أقوى لها في منطقة حوض النيل، لم تسارع إلى الاعتراف بالدولة الوليدة، ولم تبد حماسة ظاهرة لوجود دولة حليفة اسمها جنوب السودان، خصوصاً وأن الفلسطينيين يطرحون بقوة فكرة الذهاب إلى الأممالمتحدة لنيل موافقتها على دولة في حدود الرابع من حزيران 1967، والحصول على مقعد كامل العضوية في المؤسسة الدولية. انفصال جنوب السودان يشكل مؤشراً قوياً وملموساً على أزمة الدولة العربية، وليس فقط على أزمة النظام السياسي، الذي لم يتمكن من احتواء صراعاته وتنوّعاته الداخلية، في إطار مشروع نظام سياسي ديمقراطي، هو الأقدر على تحويل هذا التنوع إلى عامل إيجابي في الدفع نحو التطور والتنمية. والحال أن النظام العربي الرسمي القائم حتى الآن بما هو عليه من قهرية واستبداد، وتخلف، إنما يشكل بيئة صالحة للكثير من التدخلات الخارجية، التي تسعى إلى تفتيت الوحدات الجيو- سياسية العربية بهدف إضعافها، والسيطرة عليها والاستئثار بثرواتها، مما يعني أن ما جرى في السودان، يشكل فاتحة لتقدم مشروع التقسيم في عدد من الدول العربية التي تماثل تراكيبها الوضع في السودان. وإذا كان تحقيق السلام في السودان، ومنطقة القرن الأفريقي هو العنوان الذي تتلطى خلفه التدخلات الأجنبية، وفي مقدمتها التدخلات الأميركية والإسرائيلية، فإن المستقبل وفق المعطيات الملموسة لا يرشح هذه المنطقة لبلوغ الحد الأدنى من الشعور بالأمن والسلام. سيقبض السودان ونظام عمر البشير الثمن مؤقتاً على التزامه باتفاقية نيروبي، وبنتائج الاستفتاء، وبكونه أول دولة تعترف وتحتفل بالدولة الجديدة، فلقد طالب البشير الرئيس الأميركي باراك أوباما الوفاء بالتزاماتها، لرفع الحصار عن السودان، وبضمن ذلك ربما وقف إجراءات ملاحقة البشير، بناء لمذكرة أوكامبو، ولكن السودان سيدفع أثماناً إضافية، فالتدخلات لن تتوقف، وربما لا تتوقف الانقسامات، أيضاً. فهناك مشكلة دارفور، وإبيي، فضلاً عن العديد من الألغام التي تجعل المنطقة مرشحة لمزيد من الصراعات المسلحة. ولكن ألا تخجل الولاياتالمتحدة، التي ضغطت بقوة وبوسائل عديدة من أجل تقسيم السودان، ووظفت المحكمة الدولية، والعقوبات، وكل ما تملك، فيما هي تقاتل بشراسة لمنع الفلسطينيين من التوجه إلى الأممالمتحدة، أو من تقرير مصيرهم بأنفسهم؟ إن السلوك والموقف الأميركي إزاء السودان، طوال الفترة السابقة وحتى إعلان الجنوب استقلاله، يكشف مجدداً، ما تتميز به الولاياتالمتحدة، من ازدواجية في المعايير، ومن أنانية مفرطة تبحث فقط عن مصالحها دون أي اعتبار لمصالح الآخرين، على أنه إذا كان الأمر مكشوفاً إلى هذه الدرجة، فإن اللائمة تقع على من لا يزال يتوهّم دوراً مختلفاً من الولاياتالمتحدة، سواء إزاء القضايا التحرّرية الكبرى أو حتى إزاء دعم الديمقراطية والتنمية في المنطقة العربية.