تأسس تلفزيون السودان العام 1962 واجرى تجربة للبث في نفس العام لاجل نقل احتفالات 17نوفمبر التي درج نظام عبود على اقامتها سنويا،الا أن التجربة فشلت لعطل كهربي ،أجل افتتاح المحطة التلفزيونية الوليدة وقتها الى العام التالي 1963 حيث انطلق الارسال التلفزيوني الى يومنا هذا،ومنذ ذلك الوقت مر التلفزيون القومي السوداني بحقب فيها من فترات التطور والاشراقات ما فيها،وكذلك من العثرات والتخبط في مسيرته النصف قرنية ،ولكن الشاهد أن تلفزيون السودان على العموم لم يتطور التطور المنشود على الأقل برامجيا بحسبان نشؤ محطات تعد حديثة عهد بالنسبة له في المنطقة العربية والأفريقية،ولكن اذا أخذنا مثالا للتلفزيونات العريقة كالتلفزيون المصري،وهو مشابه لتلفزيون السودان في كثير من الجوانب فهو تلفزيون حكومي مدعوم بالكامل من الدولة وتأسس أيضا في نفس الحقبة الزمنية التي نشأ فيها تلفزيون السودان ولكن الفرق أن التلفزيون المصري تطور كثيرا بل قفز قفزات هائلة من خلال انشاءه لكثير من القنوات المتخصصة بلغت العشرات اضافة لجودة المحتوى البرامجي والدرامي مما جعله في مصاف التلفزيونات العربية الرائدة والمؤثرة،مرد ذلك النجاح في اعتقادي هو للتخطيط السليم والادارة الواعية المتخصصة،واذا أسقطنا هذه الجزئية الأخيرة على تلفزيون السودان نجد أن بدايته أتت عفوية من خلال محادثة تلفونية بين طلعت فريد وزير الاستعلامات والعمل وأحد الضباط الأوربيين الذي كان زميلا له في السلك العسكري، فبعد تقاعد ذلك الضابط عمل وكيلا لشركة(طومسون)... أراد هذا الوكيل خدمة زميله السابق والتسويق أيضا لمنتجات شركته، بأن اقترح عليه اقامة محطة تلفزيونية في السودان على غرار احدى الدول الأفريقية التي قام نفس الشخص بتركيب محطة بها،هكذا قام تلفزيون السودان دون تخطيط مسبق ولا أهداف واضحة وهذا ما أثر على مسيرته بعد ذلك نجاحا وفشلا...كان أول مراقب لتلفزيون السودان هو الخبير الاعلامي المعروف الان بروفسير علي محمد شمو أطال الله عمره،وهوالاعلامي الوحيد الدارس الذي ترقى الى درجة المدير ثم الوزير لاحقا عبر التسلسل الطبيعي للوظائف فهو كما معروف بدأ حياته الاعلامية مذيعا مميزا ثم تطور في عصامية يشهد له بها الجميع،أما كل المدراء الذين أداروا التلفزيون بعده كانوا بعيدين عن الحقل الاعلامي وتم تعيينهم اما لموالاتهم للأنظمة العسكرية المتعاقبة أو موالاتهم لأحزاب سياسية كما في فترتي الديمقراطية الثانية والثالثة،باستثناء بعض الفترات القصير كادارة الراحل مكي عوض النور ومحمد طاهر أو د.جمال الدين عثمان فهم تقريبا خرجوا من رحم المؤسسات الاعلامية اذاعة أو تلفزيونا أو أكاديميا وحتى فترات هؤلاء لم تدم طويلا حتى ترى مجهوداتهم النور اذ سرعان ما يتدخل السياسيون لتعيين الذين يوالونهم ،وهذا هو السبب الأساسي في تأخر تلفزيون السودان عن التقدم(تدخل السياسة في العمل التكنوقراطي)...بقفزة صاروخية من هذه الخلفية التاريخية لتلفزيون السودان نصل للواقع الذي يعيشه التلفزيون القومي من ترد في البرامج ورتابة في الأخبار بسبب بروتوكوليتها الصارخة وعدم خروجها من (التقى الوزير وافتتح الرئيس) ،هذه التقليدية هي التي خلقت صورة غاتمة للسودان في الخارج بل وأجترت وأعادت كل الأكلشيهات والقوالب الموضوعة عن السودان في انه دولة حروب ونزاعات ومجاعات،بل فشلت ادارة التلفزيون في الترويج للصورة الناصعة للسودان في مجال الموارد والثروات وفي مجال ثقافة وتراث البلد والسياحة،ما نشاهده في تلفزيون السودان هو اجترار للفشل البرامجي والذي ينم عن فراغ معين القائمين على أمر التلفزيون من أي ذرة ابداع وهذا يقودنا للتعرف عن قرب من هم الذين يديرون التلفزيون القومي ؟،وبأي عقلية يديرون هذا المرفق الحيوي والتاريخي؟وماهي مؤهلاتهم التي أتت بهم للجلوس على قمة هذا الجهاز الحساس؟ وما هو دورهم في التردي الاداري والفني الحادث الان؟...كل هذه الأسئلة وغيرها نجيب عليها في مقالنا اللاحق تفصيلا الجزء الثانى من المقال تطرقنا في مقالنا السابق الى تاريخ تلفزيون السودان والملابسات التي صاحبت تأسيسه والتي أثرت بدورها في مراحل تطور التلفزيون ،وعقدنا مقارن بينه وبين التلفزيون المصري الذي شهد قفزات نوعية وكمية بعكس تلفزيوننا القومي الذي لازال يراود مكانه من حيث التقليدية في العرض وضعف المحتوى البرامجي،ومن خلال سردنا التاريخي بينا أن معضلة التلفزيون تكمن في عدم التخطيط السليم وعدم وجود الادارة المتخصصة الفاعلة، وقلنا أن افة التلفزيون هي تغول الساسة في عمل التكنوقراط وتعيين الادارات المتعاقبة وفق الولاءات لا الكفاءات وهذاما سيكون عليه مضمون مقالنا هذا...من يدير تلفزيون السودان اليوم؟ سؤال ربما يتبادر للكثيرين وهم ينظرون بعين الحسرة للحالة السيئة التي يمر بها التلفزيون العتيق ،من هم هؤلاء الذين وصل التلفزيون في عهدهم الى هذه الدرجة السحيقة من التردي...انهم سادتي ثلاثة رجال هم من يديرون شأن التلفزيون الان ويدور في فلكهم (شلة) من المنتفعين والانتهازيين... كل رجل من هؤلاء اتخذ لنفسه بطانة و(مركزقوة) لتنفيذ مصالحه الشخصية أما المصلحة العامة فهي اخر مايتبادر لاذهانهم،يشكل تجمع الرجال الثلاثة وبطاناتهم عصابة من ثلاثة أفرع هي الحاكمة بأمرها في التلفزيون، دون سائر منتسبي التلفزيون من برامجيين ومهندسين واداريين،في الظاهر أن هذه الثلاث( كنتونات) تتعامل بتناغم تام فيما بينها ولكن اذا اخترقت حلقاتها تجدهم في صراع محموم للجلوس على قمة ادارة التلفزيون أو للفوز بالمغانم (وتحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) ،من هم هؤلاء الثلاثة؟؟؟ هم محمد حاتم سليمان المدير العام،ابراهيم الصديق علي مدير القناة القومية،عبدالماجد هارون مدير الادارة العامة للأخبار ،وسنفصل سيرة كل واحد على حدا وتبيان دوره في التردي الحادث للجهاز القومي المسمى بتلفزيون السودان. نبدأ بمحمد حاتم فهو خريج شعبة الصحافة بجامعة أم درمان الاسلامية في فترة الثمانينيات ، انخرط كغيره من الطلاب الاسلاميين في المنظمات الشبابية والطلابية كالاتحاد الاسلامي للطلاب ،ثم حاول الالتحاق بتلفزيون السودان مذيعا ومقدما للبرامج، وقد اجرى حوارا يتيما مع الصادق المهدي رئيس الوزراء في فترة الديمقراطية الثانية،وبعدها لم يقف أمام كاميرا الا بعد أن صار مديرا،فبحسب مقالته في كثير من الملتقيات ،انه وجد مضايقات جمة من القائمين على امر المذيعين وقتها مما دفعه الى مغادرة التلفزيون والتفرغ للعمل الاعلامي داخل تنظيمات الحركة الاسلامية... بعد الانقاذ عمل منسقا لاعلام الدفاع الشعبي ثم منسقا للشرطة الشعبية، ثم محافظا لجبل الأولياء، ثم مديرا للتلفزيون العام 2000ثم مديرا لوكالة السودان للانباء، ثم مرة اخرى مديرا للتلفزيون القومي،وبتحليل شخصية حاتم ،نجد أنه شخصية استعراضية من الطراز الأول ، فقد اشتهر بالتنظير دون الاهتمام بعواقب نظرياته ، مما جعل البعض يطلق عليه (محمد حالم) فكل المواقع التي عمل بها يشهد العاملون ، أنه من أكثر المدراء حبا للاجتماعات الطويلة التي يكون فيها صاحب الحظ الاوفر من الحديث ،ونفس هؤلاء العاملين، يكاد يجمعون ان اخر اهتماماته هو العامل... كل المواقع التي عمل بها جعل اعزة قومها ازلة من الفقر، فالرجل في سبيل تحقيق خيالاته واوهامه يسرف في صرف الاموال دون هوادة على حساب ميزانية المؤسسة وعلى حساب اجور العاملين ،تكرر هذا السيناريو في ولايته الاولى للتلفزيون وفي سونا وفي ولايته الحالية للتلفزيون،ذكر بعض العاملين انه عند تسلمه مهامه بعد نقل (عوض جادين) الى سونا، كان بخزينة التلفزيون فائض من الاموال الطائلة، الا انه بددها في زمن قياسي على مشاريع أقل ما توصف به انها (مجنونة).. من تلك المشاريع انه أتى بفكرة (التلفزيون الطائر)، أي والله التلفزيون الطائر والذي تتلخص فكرته في تأجير طائرة تحمل الكثير من المعدات والبشر، لنقل زيارات رئيس الجمهورية اينما حل ولنقل البرامج والمناسبات من ولايات السودان المختلفة،كل ذلك تم بصرف بزخي تمثل في ايجار الطائرات والصرف على ايجار اجهزة النقل المباشر وكذلك فريق العمل الضخم،فصاحبنا (محمد حالم)، في سبيل الظهور بمظهر (المنجز) أمام قادة البلد (بعزق أموال التلفزيون ورا وقدام)،تلفزيون طائر في زمن الاقمار الاصطناعية وشبكات النقل المباشر،أما كان الأجدى له التروي لوضع خطة لشبكة مراسلين تربط كل ولايات السودان بنفس هذه المبالغ التي صرفها على التلفزيون الطائر،ولكنه لا يستطيع الانتظار فهو يريد أهدافا سريعة تحقق رضاء القادة عنه دون أن يدروا انه بأهدافه العجلى هذه قد حول المحطة العريقة الى خراب،والمستفيد الأول بطانته التي حوله والتي تحضه وتتملقه لتنفيذ خيالاته المجنونة ونواصل في الحلقة القادمة بقية حكاية الرجل الأول في التلفزيون القومي.