محمد عبد الله برقاوي.. [email protected] الفنانة المصرية الراحلة أمينة رزق ، لا تستضاف في لقاء صحفي أو اذاعي مرئي أو مسموع ، وحتي وفاتها حينما كان يسألها مضيفوها عن أهم المواقف الانسانية التي أثرت في حياتها ، كانت تقول ، بفخر وتأثر ( مافيش غيرو ) هو الانسان والفنان وابن البلد الجدع ، الطيب صالح ذلك الفتي الذي وقف معي وقفة رجل شهم في لندن حينما تقطعت بي السبل ، فكان نعم الصديق الوفي الذي اعادني الى بلادي معززة مكرمة ، ربنا يكرمه دنيا وآخرة . تلك جزئية يسيرة جدا في حياة هذا الرجل الذي مزج الثقافة والمعرفة بالتواضع في التعاطي مع الناس من خلال قلمه المبدع ، فعرف الكثيرون من عشاق الحرف ، ربما في مناطق قاصية من العالم ، اسم السودان من خلال ترجمات كتبه الروائية التي ملأت الافاق وشغلت النقاد، وكانت محطته الأخيرة في الشهرة هي وطنه ، بكل أسف ، الذي عرفه بعد بلاد العالم حيا ، وهو الذي جاء من أقاصي الدنيا جسدا ليكرم بالدفن بين طيات تراب أرضنا وملحها ، الا انه لم يجد منا ما يستحق من التكريم الا القدر دون المتواضع! ولعل المرارة التي تحدث بها بعض الدراميين في جلسات جائزته التي تقام هذه الأيام على استحياء ، عن اعدادهم لافلام صورت في مواقع ووسط شخصيات رواياته الذين أكتشفوا أنهم شخوصا حقيقية موجودة ، ولكن تلك الأعمال التي عرضتها البحرين مثلا ولكنها ويا للعجب ظلت حبيسة العلب ، نتيجة محاربة بعض القائمين على أمر أجهزتنا لأعمال الطيب صالح لا أدرى ، ربما لانه تسأل في يوم اعدام الضباط في ليلة العيد اياها وقال قولته المشهور ( من اين أتى هؤلاء وهل ولدتهم حواء السودان ؟) أم لفهمهم القاصر لمرامي الابداع التي تعكس احيانا ممارسات وحكايات هي موجودة في المجتمع شئنا أم ابينا ، لكن الناس يتعاطون معها بمنطق العيب والحرام ، دون اخضاعها للبحث والتشريح والتمحيص عن مسببات وجودها ودوافع جرأة المجاهرين بها مثل بنت مجدوب التي لا يخلو من شاكلتها ركن من اركان الريف القديم وحتي الحديث في زماننا الحالي ! ولكن الطيب كان أكثر مثقفي السودان اقداما في تلمس ذلك الواقع بانامل ابن بيئته التي عاد اليها ليصبح عندها أكثر قربا ، رغم غربته الطويلة والبعيدة عنها ! سمعته مرة يحكي وهو في زيارة لسلطنة عمان الشقيقة عبر تلفزيونها ، انه جلس الى رجل عجوز بسيط يمتهن صناعة الخناجر العمانية في صلالة ، وكان معلقا خلفه بيت شعر للمتنبي يصف فيه سيوف الهند ( بانها حدائب ) فقال له الطيب أن الصحيح في جزئية البيت ( وهي حدائد ) ودار بينه وبين الرجل نقاش استسلم الطيب بتواضع العالم المثقف لمنطق ذلك الرجل البسيط الذي أو ضح له أن السيوف كلها حدائد ، لكن المتنبي اراد أن يظهر الفرق بين سيوف العرب وهى مستقيمة ذات حدين ، فيما سيوف الهند حدباء ذات حد واحد في شكل المنجل ! تلك نقاط ليست الا من دفق ذلك النهر العذب الذي أخضرت لقلمه الرشيق ضفاف الكلمة ودفات الكتب بحروف تسربت في دفء وسلاسة الى أوردة وشرايين ومسامات الأدب ومنها الى وجدان الناس بمختلف مستوياتهم الثقافية وفي شتى اصقاع الدنيا، فاضاف بعدا شهدت له عقول من يقرأون خلف السطور ، فيما الذين يتعثرون في جلباب خطلهم المدقع عند قشور ما يفهمونه بسطحية مخجلة ، يقفون عقبة كأداء في سبيل الذين يسعون الى تخليد أدبنا من الاندثار بعد ذهاب الطيب ، وليس الطيب الذي كتب لنفسه الخلود في حياته ، ولم يمضي بعيدا حتي بعد موته لان العالم الذي سبقنا بمراحل لتكريمه لا ولن ينساه حتى نقيم نحن متأخرين لذكراه ما هو دون قامته الباقية في حروفه وانسانيته وروعته وتواضعه واسمه الكبير الذي اقترن باسم السودان وانسانه الطيب على اسمه ، وقد وصفه في احدى رواياته مرة ، قائلا ، ( أنا من شعب اذا بكى مسح أدمعه واستغفر الله واذا ضحك مسحها واستغفر الله ايضا ) فهل مثل هذا المؤمن الطيب ، يحارب لمجرد أنه يقول كلمة الحق ، في حقيقة قوله وفي مجاز روايته ، له الرحمة ، من لدن كريم رحيم ، انه المستعان ..