"الاستقلال هو الحساب. هو القدرة على إجراء الحساب مرّة بعد مرّة، والجرأة عليه". أحمد بيضون تعلّم تجربة عام الثورات العربية – ولن نتعلّم – درساً تاريخياً تلقنته أوروبا من قبل: الفارق الهائل بين الحاكم والمسؤول، بين الرعونة والمسؤولية. الحكم يمكن ان يكون أي شيء، مغامرة أو خمولاً أو تبلداً. المسؤولية هي أرقى وأعلى وأعمق مراتب الخُلق، رسمية أو مجتمعية. في الديموقراطية البريطانية المسؤولية ليست ولاية أو عهداً بل مشاركة واستمرارية: الحقيبة الوزارية تعطى للوزير وللوزير الظل معا. للحزب الحاكم وللحزب الذي سوف يحكم بعد حين. بكلام آخر، السياسة مسؤولية، في الحالين. تعامل العرب مع السياسة على انها تحكّم واستغلال واستبداد. فالانسان ليس سوى عربة تحمل سيدها الى حيث يبقى. كل يوم يطل على الناس ويمننهم بوجوده، يخطب فيهم عن حقوقه، وأحقيته، وعما يجب ان يقدموا على مذبحه. يتفرس في وجوههم بعنف ثم يحدثهم عن تقصيرهم في العبادة، عن لؤمهم في عدم تقديم البخور وعذارى الهيكل. يؤنّبهم، يعنّفهم، يهددهم، ثم يذهب الى النوم استعدادا لليوم التالي. يتناسخ اليوم التالي في بلاد العرب، متشابها، مملا، ومليئا بالصراخ والفراغ والاستعلاء. لا يتعلم العرب في بيوتهم وروضاتهم ومدارسهم، شيئا هو علم الحياة، يُعرَف أيضا، بالمسؤولية. لذلك يعملون للوصول الى السياسة على انها استباحة، وطريق الى الثروة والجاه، ومهنة سهلة تقوم على السفسطة، وتتكل على صغار المصفقين، وتغذى بحك الغرائز وتهييج المشاعر العمياء، وإلهاء الناس عن مصيرها باغراقها الدائم في اللغو والثرثرة والاجترار. في العام الاول للثورة تكتشف ليبيا انها اضاعت اربعين عاما في ظل رجل حشا نفسه بكنوز الملك سليمان، وافرغ بلده من الزمن. احتكر لذاته كل شيء وحلل لها كل شيء، لكن اهم ما استباح هو الوقت. سرق أعمار الناس وفرحهم. سرق ما لا يسترد. اخذ الزمن، ورمى اليهم بسلسلة من الخطب والتهريجات والتأنيب، وذات مرة طلب منهم ان يهاجروا الى السودان، لأن لا أعمال في ليبيا. أول – وأحط – ما فعله معمر القذافي والأكثر خساسة انه نفى عن نفسه المسؤولية. قال إنه قائد لا حاكم. يفكر في الناس (جميعا) ويفكر لها ويفكر للأمة ثم يبلّغ الشعوب إلهامه. لكنه غير مسؤول. لم يوقّع طوال اربعين عاما ورقة واحدة. استبد وأباد ولم يأت شيئا سوى الظلم والعذاب والقهر، من غير ان يوقع ورقة واحدة. كانت كل تعليماته شفهية. طرد المسؤولية من امام عينيه، لأنها حمل لا يحمله سوى الكبار والاخلاقيين. الدجال ليس مسؤولا. انه هارب دائما من المسؤولية. والمسؤول دائما سواه. يذكرنا هذا العام الذي مضى بعدد الاعوام التي بُدّدت باسمنا. بزمن الهدر والهباء والعذاب. بالجيوش التي هزمت في فلسطين، وربحت في الحروب الاهلية وحرب الحريات. بحال الامة التي يتناوب عليها الجهل والتخلف وهزيمة الأنفس وهول الفقر، ويظل فيها الحكم وحده غير قابل للتناوب، والمسؤولية وحدها مرفوضة كأساس ومعيار للعمل العام، بمختلف درجاته. لا تسمح آنية اللحظة برؤية عمق التحول. لكن هذا العام الذي مضى والذي كانت ليبيا أفظع علامات الدراما والتهريج فيه، سوف يحل في التاريخ على انه عام المحاسبة، عام تحميل المسؤوليات، عام العودة – من دون تفاؤل كثير – الى بديهة معمول بها عند معظم الشعوب والامم، تدعى المسؤولية. وللرومانسيين، شرف المسؤولية. مسؤولية الشخص العام عن سلوكه، وعن خطابه، وعن عمله، وحتى عن نياته، بل خصوصا عن نياته، وانما الاعمال بالنيات. فالصلاة من غير نية باطلة. الكلام الكبير والاعمال الصغيرة. والزمن يمرّ فوق مدافن الوقت في العالم العربي. اعتاد الحكام وتبلدت الشعوب على ان هذه مخلوقات تحرك من الاذاعة وتقتات الاناشيد. ومع الوقت نسي الجميع ان ثمة يقظة ما في ساعة ما على مفترق التاريخ. كانت الشعوب السوفياتية منتفخة بالخطب لكنها تقف في الطوابير من اجل ملفوفة او ربطة من البرتقال المغربي. ثم لم يعد ينفع شيء، لا الكبت ولا القمع ولا مشيئة القوميسار ولا تقارير الزوجة عن زوجها في اقبية "الكي جي بي". لا يمكن البشر ان يعتادوا الظلم، مهما تظاهروا بذلك، مهما طالت هدنتهم مع المخبر والشرطي والمبشرين بالرعب، كنهج وحيد لتمضية العمر في كوكب الذل. يخيف في لبنان، اكثر من اي شيء آخر، ان ليس من سلوك سياسي يتسم بالمسؤولية. ولا احد يعرف من هو المسؤول. ولا احد يجرؤ على مساءلة التصرفات والسلوكات والخطوات والقرارات التي تؤدي الى الضرر والاذى والخراب. ولا محاسبة الا الهزلي منها. كأن يذهب المتنازعون الى مجلس الشورى ثم يردون قراره خمس مرات. او ان تذهب القضايا الى مجلس الوزراء فيقرر وزير واحد انه اهم من المجلس مجتمعا، أو ان يتبادل السياسيون افظع انواع التهم في الاذاعة والصحافة ولا يصل احد منهم الى القضاء، لا المدعي ولا المتهم. او ان تصدر تصريحات رعناء تضر بحياة البلد، ولا يسأل اصحابها عن مسؤوليتهم، لا امس ولا اليوم ولا طبعا غدا. لم يعد لأي شيء معنى او اهمية. و"الكلام ما عليه جمرك" حتى لو كان من النوع المخدّر او المفجر او الممنوع في البيوت. لم نتوقف عند مشهد الحكومة غير القادرة حتى على الاجتماع، في بلد تغيب فيه الكهرباء 18 ساعة في اليوم. توقفنا امام ما هو اعمق بكثير في جوهر لبنان وحياته: رجلان خاطبا اللبنانيين من بعد، السيد حسن نصرالله من خلف شاشته التي تكاد تصير امرا عاديا، وزعيم المعارضة سعد الحريري، الذي صار الكسر في ساقه عذرا طبيا شرعيا للغياب، بعدما كان متغيبا من دون تقرير طبي. درامية الصورة في رمزيتها. وقاعة الحوار خالية. وكل قضية لها علاقة بجوهر الكيان والوجود، قضية معلقة او مهربة. من المحكمة الدولية والموقف من القانون، الى الوضع السوري الشاق، والذي لم يحرك فينا اي شعور بالاتفاق على رؤية موحدة حياله. نحن ننقسم حيال سوريا في ازمتها كما انقسمنا حيالها في ازمتنا معها. ولكن ما يجري في سوريا اعمق من ان يكون ازمة عابرة. واخطر من ان ننظر اليه بوسائلنا المنتهية الصلاحية والاثر، وهو وضع لا يُترك للتلفزيونات المتعادية و"الحوارات" المسطحة. لكننا لا نجد ايضا مجموعة فكرية او عقلانية واحدة، التقت لكي تبحث في الامر. هذه مسألة لا تترك للنوازع الآنية والضيقة. ولكن لا يبدو ان احدا يدرك مدى ومعنى مسؤوليته حيال هذا الاعصار القائم منذ عام. ولا يدرك السياسيون ان المسؤولية ليست فقط غبّاً ولا ثأرا ولا فرصة. بل هي عقد دائم ومبادلة دائمة ومساواة تقسم الناس مواطنين اتباعا وازلاما واعداء. على ان ثمة يأسا من ان نبلغ يوما مرتبة المواطن ورتبة الوطن. بياعون يا بلدنا، على ما قال شوشو، يوم كان يضعنا على المسرح ويدفعنا الى الضحك على انفسنا. كان المؤرخ ارنولد توينبي يقول ان لبنان ليس مهما فقط بما يدخله، بل بما يخرج منه ايضا. مَن منا يعرف ماذا يدخل لبنان وماذا يخرج منه اليوم؟ من منا يدرك مستوى الطفح في هذه التعبئة الكالحة المتصاعدة منذ سنين، لا يلجمها شيء ولا يلطفها شيء؟ ما هذه "الديموقراطية التوافقية" التي تجرد رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة من حق الرأي ومن حق العمل؟ ما هو هذا البلد الذي يحتاج دستوره الى تفسير يومي؟ ما هي الحكومة التي تضطر للجوء الى مجلس الشورى في امر بسيط، فإذا افتى رفضته هو ايضا، كما ترفض كل الاشياء كل الايام. وطبعا كل المؤسسات. *نقلاً عن "النهار" اللبنانية