شعوب المركز - في السودان - لديهم مشكلة حقيقية في تفهم معاناة مواطني الهامش، وهم من قلة فهمهم لا يدركون حتى ضعف خيالهم، ولا يتذمرون حقا، في عمومهم، إلا حين تصيبهم جرعات خفيفة من واقع الهامش اليومي. معذرة لأهل المركز العظماء الأكارم، أهل الحسب والنسب، فقد اتسعت النيران على "فضلة خيركم"، أهل الهامش، حتى استعصى احتواؤها عليهم، فأفلتت بعض الشظايا التي أصابتكم. معذرة على الإزعاج، ولولا الظروف فأنتم طبعا تعلمون أن أهل الهامش فداء لكم!. كثير منهم - أهل المركز - يرددون، بثقة، أن ما ينتظر السودان هو خطوات أخرى نحو الجحيم إذا تزعزعت السلطة المركزية الحالية، برغم سوئها. وذهلت أخيلتهم عن أن الواقع في مناطق الهامش اليوم، ومنذ زمن مضى، إنما هو الجحيم بعينه. يا أكارم، هذا الوطن يعيش حالة حرب شرسة، منذ سنوات، أتلفت الأحياء والأشياء، وانتهكت الأعراض والممتلكات والأرواح. وخيار المقهور سلاحه، يدفع به عن نفسه وأهله، كما جرت سنة البشرية. ليست هناك حرب نموذجية في التاريخ المعلوم، يموت فيها الأشرار فقط وتحيط الهالة بأخيارها، فخسائر الحرب خسائر حقيقية، ومؤلمة، لكن لن يكون هناك أمل في مستقبل أجمل إذا لم يتشارك أهل السودان الآلام أيضا؛ آلام المخاض، من أجل ميلاد جديد. ثم يقولون لك، في تجليات "نبيلة"، أنه من الصحيح أن أهل الهامش يعانون، ولكن التوجه نحو التشفي والانتقام من أهل المركز، وتجريعهم مثل ما تجرعوا، لا يفيد إلا المزيد من الألم، ولا يصلح حال أحد. هل يمكن إذن أن نسأل، لماذا "ينتقم" أهل الهامش؟ فالمعروف أن الانتقام إنما يكون من من تسبب لك في أذى مباشر، فأنت تريد أن تؤذيه كما أذاك. هل هذا اعتراف ضمني من أهل المركز، ذوي التجليات النبيلة، بأنهم آثمون، مثل سلطتهم المركزية، في حقوق اخوانهم أهل الهامش؟ فإن كان كذلك، فأيهم أولى، أن ننظر ونراجع ما سببناه من أذى - ضمني أو مباشر - لأهل الهامش، أم نتذمر من مقابلة المثل بالمثل؟. يقول المهاتما غاندي، في صيغة مشابهة، عن أن مشكلة الفقر والبؤس هي مسؤولية اجتماعية، "لا ينبغي أن ننخدع بالثراء الذي نراه في المدن الهندية، فهو آت من دماء الفقراء. أنا أعرف اقتصاد القرية، وأقول لكم إن الضغط من الأعلى يسحق أولئك الذين في الأسفل. كل ما علينا فعله هو أن ننزل عن ظهورهم". وبين المدينة والقرية يمكن أن نقول "بين المركز والهامش" أيضا. برغم وضوح ما يجب فعله، إلا أن المماطلة والتسويف هو ديدن المستفيدين من الوضع الراهن؛ حتى ولو كانت استفادة نسبية قد يقول قائل – بحق وبغير حق – أن شعب المركز لا يمكن أن يوصف بأنه "مستفيد من الوضع الراهن"، بأي حال من الأحوال، ولا حتى نسبيا.. هذا في عمومه صحيح، إذا استثنينا القلة من رموز السلطة المركزية الحالية والمجتمعين حولهم، لكن المسألة أعمق من هذا.. المسألة تاريخية، ومتعمقة، بحيث أن السلطة المركزية الحالية كثيرا ما تشكل في وجدان بعض أهل المركز شرا مبررا، لأن البديل المتوفر الآن هو استيلاء حركات المقاومة، ذات الأغلبية من الهامش، على مقاليد السلطة المركزية في السودان.. وهذا في العقل الجمعي لأهل المركز – شعوريا ولا شعوريا – يمثل شرا أكبر من الواقع المعاصر، لأنه يهدد جميع الامتيازات التاريخية التي راكمها أهل المركز على حساب أهل الهامش. وما بال المقاومة المسلحة؟ هل العنف المضاد هو الحل؟ وهل ما زلنا في زمن تأييد التغيير العنيف؟ ألم نشهد ونتعلم من تجارب الإنسانية المريرة أن العنف لا يأتي بسلام مستدام، وإنما هي الدوامة الشرسة التي لا تنتهي؟ أسئلة كثيرة من هذا النوع تقفز لخواطر وألسنة القراء. وهي عندنا مبررة، في عمومها، لكنها في غير محلها، وتحتاج للامتحان الواقعي، لأن ثقافة السلام ليست عاطفة فجة، وإثارات مطلقة بلا موازين، إنما هي استراتيجيات نحو أوضاع اجتماعية مستدامة، تتطلب حنكة وحكمة سياسية واقتصادية، وكل ذلك إنما يقاس بالمعطى في أرض الواقع، لا بالمُثل المجردة. من المعروف أن الأستاذ محمود محمد طه كان من أكبر دعاة التغيير السلمي في السودان، وقد قدم دفوعات أخلاقية وموضوعية قوية في صالح المقاومة السلمية، وعليه فهو نموذج بارز لدراسة ماهية المقاومة السلمية وآلياتها، نظريا وتطبيقيا.. في كتاب "أسس دستور السودان"، تحدث الاستاذ عن الجيش السوداني، وقال إن على الحكومة المركزية "واجب الدفاع الوطني بالجيش السوداني، الذي يخضع لها وحدها وتنبث معسكراته في النقط الاستراتيجية في جميع البلاد، كما يستمد جنوده من سائر المواطنين، ويقع واجب الدفاع الوطني على السلطتين المركزيتين: التشريعية، والتنفيذية، اذ أن البرلمان وحده هو الذي يعلن حالة الحرب، وينفق على الجيش".. إذا قرأنا مكتوب الاستاذ هذا، هل نستنتج بان خيار الحرب لا مكان له في الفهم السياسي عند الأستاذ؟ أم أن هنالك حالات من "الدفاع عن النفس" – وليس مجرد "المقاومة المسلحة" أو "التغيير العنيف" – يفرضها الواقع، ويفرض بها على الشعوب الحرة خيارات ليس من بينها تجنب السلاح؟. ومن الناحية العملية، فقد أيد الاستاذ محمود ما فعله عبدالله خليل حين جهّز الجيش السوداني للذود عن حلايب. أيده في اتساق مع ما قاله مسبقا بخصوص دور الجيش السوداني في حماية أرض الوطن من اعتداء المعتدي، إذ أن ذلك دفاع عن النفس وليس وقوفا في صف العنف. أيضا، قال الاستاذ، في بعض تصريحاته، إن قصارى الحرب، في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إنما هو أن تقود الاطراف المتنازعة لطاولة المفاوضات، وهذا حق. لكن هذا يعني أيضا أن الحرب أحيانا تكون هي السبيل نحو طاولة المفاوضات، لان أحد طرفي النزاع لا يعترف بالطرف الآخر وبكيانه في مستوى انه يستحق المفاوضة. بعض مثقفي المركز، من أصحاب الضمائر، يرون أن موقفهم هم من المقاومة السلمية هو نفس الموقف الذي يجب أن تقفه شعوب السودان المهمشة والمعرضة للقصف الجوي والتهجير القسري والتعذيب وجرائم الحرب، وهذا في نظري موقف قد يدل أحيانا على قلة الشعور بمعاناة الآخرين، وضعف الخيال بحجم المصائب التي تواجههم بصورة ملحة ويومية "في لحمهم الحي". حين يواجه المرء عدوا لا يعترف حتى بإنسانيته، بله حق حياته، وهو أيضا عدو غير مؤهل لأن يحسب نتائج عدوانه النابع من كراهية تنضح، واستعلاء مستعلن، يصبح من رفاهية الحديث أن توصي هذا المعتدى عليه بان يختط خط المقاومة السلمية. حتى غاندي تحدث عن أن المقاومة السلمية تستهدف مواجهة الخصم بضميره، وبمُثُله الأخلاقية التي يزعم لنفسه أنه يلتزم بها، فإن لم يكن الخصم على مستوى من الحس الإنساني يجعله يلتقط هذه الرسالة فإن الرسالة لا تُفهم، وقد لا تُلتقط أصلا (والذي أخرج المستعمر البريطاني من الهند هو الرأي العام البريطاني، والعالمي، الحر، تحت أنظمة تقر بشرعية هذا الرأي والاستماع له، بعد أن التقط هذا الرأي العام الرسالة التي وجهها له الشعب الهندي بقيادة غاندي، وفهمها). حكومة الخرطوم الحالية لها رصيد واضح من التجربة التي تفيدنا بانها لا تتحدث هذه اللغة، وإنما تتحدث، في أعلى مناصبها، لغة "لحس الكوع" و"الحشرات" و"العصا"، وما يليها. إن وضع إنسان المركز، اليوم، ليس هو وضع إنسان الهامش، حين يُجابَه هذا الأخير بانتهاك حياته وعرضه، انتهاكا صريحا وبالغا أقصاه. ثم إن حتى النهج الديني عموما، وفي الإسلام، في السنة النبوية خصوصا، هو ألا ينتصر المرء لنفسه، وأن يحتمل الأذى في نفسه، لكن هل يطالب الرجل بان يقف مكتوف الأيدي إذا تم تهديد زوجته وأطفاله بالخطر أمام ناظريه؟ وهل يطالب أشداء المجتمع بأن لا يحموا ضعافه من النساء والأطفال والعاجزين وكبار السن؟ أم أننا لا نظن أن هؤلاء تعرضوا للانتهاك السافر، المُخطط والمُنفّذ بسلطة الدولة؟. هناك جيوب من الكرة الأرضية اليوم ما زالت تعيش بقانون القرون الماضية، بل وأحط من ذلك، في ظروف حرب يعمل فيها قانون الغاب. إن من غير الواقعي نقد حركات الهامش في خيارها المقاومة المسلحة، تماما كما من غير الواقعي أن نقول لأي محتل، مثلا، تعال نحلها بالمفاوضات فقط، في حين أن جيوش هذا المحتل لم تعلن نية غزونا فقط، إنما بدأت في التنفيذ العملي في ذلك. ونحن في السودان – وبعض بلاد العالم "الثالث" – اليوم نعيش في ورطة أن جيوشنا الوطنية، التي نصرف عليها من ضرائبنا، ونغذيها بفلذات أكبادنا، هي التي تفعل كل ما يمكن أن يفعله المعتدي المحتل. هناك بعض الكتب التاريخية والتحليلية، في المكتبة السودانية اليوم، ترصد مسيرة الجيش السوداني، منذ ما قبل الاستقلال (قوة دفاع السودان) إلى ما بعده، ودوره في الحروب الأهلية، والانقلابات، والانقلابات الفاشلة، انتهاء إلى ما جرى في عهد السلطة المركزية الحالية من زعزعة واضحة لبنية الجيش وتدجين صريح لقياداته. الخلاصة المشهودة هي أن الجيش السوداني، باختصار، به مشاكل كثيرة كمؤسسة، لأنه حتى هذا اليوم لم يستوف شروط المؤسسة الوطنية، لا في ديمغرافيته ولا في هيكله المادي ولا في تاريخه المهني. هذا الجيش، منذ أيام رئيس الوزراء محمد المحجوب، شارك بفعالية في قتل وتشريد مواطني السودان، في بقاع شتى، وانخرط في أعمال سياسية داخلية، بدون حياد، مرات أكثر بما لا يحصى حيال المرات التي نهض فيها لحماية أرض السودان من تهديد أجنبي. من المؤكد أن خيار الاشتباك المسلح له مشاكل كثيرة، ولا يمكنه أن يتخلص منها، وتحدث في خضمه الكثير من التجاوزات، من جميع الاطراف، لكنه هنا، وبصورة واضحة جدا، خيار بين خيارات أخرى، أحلاهم بمرارة العلقم. كما لا يصح موضوعيا أن ننظر لمقاومة الهامش المسلحة على أنها "محاولة للاستيلاء على السلطة بالعنف"، إنما هي، حسب الحيثيات الموضوعية، محاولة لتحييد عنف السلطة – وهي التي بادرت بالعدوان والانتهاك السافر للحقوق – حتى تكون هناك مرحلة قادمة من اقتسام السلطة والثروة، بين عموم شعوب السودان، بغير ميزان القهر والغلبة. باختصار، فإن الدور الذي يلعبه أهل المقاومة السلمية، في تكميل البناء الفكري والاخلاقي من أجل سودان جديد، بمعنى الكلمة، ليس هو نفس الدور الذي تلعبه حركات الهامش المسلحة، وليس هو المتوقع منها، حسب معطيات ظروفها وإمكاناتها التي تحدد لها أولوياتها. لكن هذين الدورين متكاملان، وليسا متناقضين، في سياقنا التاريخي المعاصر. مشروع السودان الجديد ليس حوالة على فئة واحدة من فئات المعارضة، ثم نحن نتناقش حول أي هذه الفئات تكون، لأن مشروع السودان الجديد في جوهره يطالب بمشاركة الجميع في العمل نحوه، وكلٌّ من موقعه. يكون من الظلم أن نحاكم حركات الهامش المسلحة بمعطيات ظروفنا نحن، أهل المركز، ويكون من نقص البصر ألا نرى ما يستوجبه اختلاف الظروف والإمكانات من اختلاف أدوار، وإن كان الهدف العام واحدا. ما هي سعة الخيال المطلوبة في هذه الظروف، وخصوصا من أهل المركز؟ هي المقدار الكافي من الخيال لتصور ظروف الآخر (وهو لن يكون تصورا كاملا على أي حال، فأهل الوجعة لا يعرفها مثلهم أحد). إذا لم نستطع فعل ذلك فلن نكون في الطريق السليم نحو بناء أمة سودانية، لم تدخل التاريخ حقا بعد. إن الخيال، لو استعملناه بجدية وحذر، قد يخفف كثيرا من عيار التجارب الأليمة المطلوبة كامتحانات تاريخية، وطقوس عبور، تتشكل عبرها الشعوب الناضجة، الواعية بقيم التعايش السلمي والاحترام المتبادل. هذا من ناحية – وهي الناحية الأهم – ومن ناحية أخرى يرى البعض أن اقتدار جماعة مسلحة، في حرب العصابات، على كسر شوكة القوات المسلحة المدعومة من الدولة، أمر يصعب تصديقه، ولا طائل من ورائه، ولهذا فإن ما تفعله حركات الهامش المسلحة اليوم، بعضويتها الغالبة من أهل الهامش، إنما يضر أكثر مما ينفع، ويؤدي للمزيد من غضب السلطة المركزية الذي يُترجم لمزيد من معاناة المظلومين. لكن الواقع أن تاريخنا المعاصر يخبرنا بالكثير من هذه السيناريوهات. في أمريكا اللاتينية، مثلا، تمكن فيدل كاسترو، عن طريق مجموعة لا تتجاوز المائة من المحاربين، التسلل إلى جزيرة كوبا عن طريق مركب واحد، وسرعان ما قضى عدد كبير من هؤلاء، منذ أولى خطواتهم في كوبا، وكان البقية محصورين وفاقدين للمعونة تماما، لكنهم تدريجيا، وبتكتيك حرب العصابات وحشد التأييد من داخل كوبا نفسها، استطاعوا الصمود والنمو والتغلغل، حتى هزموا قوات الدولة هزيمة نكراء. في جنوب افريقيا أيضا، وحين اختار المؤتمر الوطني الافريقي أن يقود حربا سياسية وعسكرية على نظام الابارتيد، بعد أن يئس من المقاومة السلمية البحتة ضد نظام يفتقر للحد الأدنى من الحس الإنساني، كان مانديلا - وهو أول قائد للجناح العسكري للمؤتمر - يحوم افريقيا لحشد الدعم له من داخل افريقيا نفسها، وليس من اسرائيل أو من أمريكا (وقد زار السودان حينها، ولم يعبّره أحد، سوى موظف المطار الذي رحّب به بحماسة، كما كتب مانديلا في مذكراته)، وقد استطاع المؤتمر الوطني الأفريقي تحقيق انتصارات كبيرة، على النطاق السياسي العالمي والنطاق العسكري المحلي، بواسطة حرب العصابات وزعزعة استقرار الدولة، بصورة تنامت حتى جعلته قوة لا يُستهان بها عالميا حين الحديث عن جنوب افريقيا. لقد كان المؤتمر الوطني الافريقي، في فترة كبيرة من تاريخ نضاله المسلح، محسوبا كتنظيم إرهابي، ليس بواسطة حكومة جنوب افريقيا فقط، وإنما بواسطة بعض الدول الغربية أيضا، ومن ضمنها أمريكا. هذان مثالان معروفان. حرب العصابات من أكثر الحروب صعوبة على الجيوش النظامية، وقانونها قانون التكتيك، والاستنزاف، واختيار الاماكن والأزمان المناسبة للضربات، وليس قانون كثرة العدة والعتاد. الدكتور جون قرنق وغيره، من قيادات هذه الحروب، كانوا يقولون، ما معناه، أثناء حرب العصابات، إن استهانة الجيش النظامي والحكومة بنا هي من عوامل نجاحنا، والحكومات كثيرا ما تشعر بحجم المقاومة المسلحة الحقيقي بعد فوات الأوان. إذن من الخير لنا ألا نستهين بقوى الهامش، المسلحة والسلمية معا، وبقدرتها على ريادة قضيتها بنفسها. من المعروف في التاريخ أن الحقوق لا تعطى، وإنما تؤخذ حين يطالب بها أهلها، مطالبة جادة ومستمرة، وقد توفرت هذه الأسباب اليوم. لكن التاريخ يخبرنا أيضا أن أهل الحقوق دائما ما يجدون من يناصرهم من الطرف الآخر، لأن وشيجة الإنسانية، والشعور بالحق وبغض الظلم، سمة مودعة فينا جميعا، بيد أنّا نحتاج لسقايتها ورعايتها، حتى لا تذبل، وحتى تنبت ثمرا محسوسا، ينفعنا وينفع من حولنا.