أما الرئيس المقصود فهو الجنرال سيلفا كير ميارديت و»دولته» بالطبع هي الأحدث في عضوية الأممالمتحدة كما الاتحاد الإفريقي، وباقي المنظمات الإقليمية، التي تجمع دولاً متجاورة ليس آخرها عضوية جوبا (وهو اسم عاصمتها) في اعلان «عنتيبي» الذي رفضت فيه دول «منبع» نهر النيل اتفاقية اقتسام المياه القديمة (تمت برعاية بريطانية) ونسبة توزيعها على دول المنبع ودولتي المصب وهما: السودان ومصر.. ليس «النيل» موضوعنا، بل ما أقدم عليه سيلفا كير عندما أصدر قرارات متتالية «شطب» فيها نائبه ومساعده والحكومة والوزراء ونواب الوزراء وأحال أمين الحركة الشعبية (وهي الحزب الحاكم ومنظمة التمرد الجنوبي الرئيسية التي نجحت في انتزاع استقلال الجنوب من الحكومة المركزية في الخرطوم) إلى التحقيق بتهمة التحريض وانتقاد أفعاله (!!).. زعيم «عربي» بامتياز فهو الدولة والدولة هو، حتى لو لم يكن عربياً وحتى لو اختلف لون بشرته وتنوعت أصوله، لكن العقلية ذاتها، لِمَ لا، وهو الذي شغل منصب نائب الرئيس السوداني بعد اتفاقية نيفاشا التي نظمت العلاقات بين الطرفين وصولاً إلى الاستفتاء في العام 2011 الذي جاء لصالح الفريق الانفصالي بزعامة سيلفا كير وولادة دولة جنوب السودان، أو السودان الجنوبي (في التسمية الرسمية) وبروز كير كأب للاستقلال ومؤسس للدولة وزعيم لتيار الانفصاليين، الذي كان أحد أبرز رموزه، حتى في ظل الزعيم التاريخي للحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق، الذي لم يرفع ذات يوم راية الانفصال بل دعا إلى سودان «آخر» غير الذي تعوّد عليه السودانيون منذ الاستقلال قبل ستة عقود تقريباً (1956) والذي لعب فيه «العسكر» الدور الرئيس منذ «الفريق» إبراهيم عبود حتى «المشير» عمر حسن البشير، وكان حكم المدنيين هو الاستثناء (اخر حكومة مدنية منتخبة ترأسها الصادق المهدي قبل ان يطيحه تحالف الجنرال البشير والشيخ المتأسلم حسن الترابي في 30 حزيران 1989). ديكتاتور اخر «انجبته» افريقيا، ولم يُكْمِل بعد سوى عامين في السلطة، فهل يمكن لاحد ان يتصور كيف سيكون عليه هذا «الثائر» القديم الذي جاء الى المركز الاول في الجنوب صدفة (كما معظم الزعماء العرب والافارقة)؟ بعد مصرع قرنق في حادث طائرة، ما يزال حتى اللحظة مسربلا بالغموض وخصوصا انه (الحادث) جاء بعد التوقيع على اتفاقية نيفاشا بوقت قصير على نحو اثار الشكوك بوجود مؤامرة متعددة شاركت فيها اطراف في الحركة الشعبية كما في بعض الدول المجاورة للسودان التي لا ترى مصلحة لها في هدوء الاوضاع في ذلك البلد الذي مزقته الحروب الاهلية وانهكه حكم العسكر. فخامة الرئيس سيلفاكير يريد ان ينفذ عملية اعادة «هيكلة الدولة» (انتبهوا للمصطلح الذي جاء في تصريح لوزير الاعلام والمتحدث الرسمي للحكومة المقال هو ايضا).. ولان مصطلح اعادة الهيكلة بات ملاذا للفاشلين في ادارة الشركات او المؤسسات الخاصة واحيانا الادارات الحكومية وتلك التي تجمع بين القطاعين العام والخاص على النحو الذي شهدته دول عديدة اختارت (اقرأ اجبرت) طريق الخصخصة واستقالة الدولة من ابسط واجباتها الاساسية تجاه مواطنيها، فإن طريقا اخر للنهب او التغطية على الفشل او التخلص من الاعباء، برز وحمل مصطلح «اعادة الهيكلة» ليقال للشعب (او المساهمين في الشركات لا فرق) في النهاية، اننا حملنا ارثا كبيرا واننا لا نتحمل مسؤولية اخطاء غيرنا ومطلوب ان تمنحونا الفرصة ولا تستعجلوا النتائج، لان الطريق طويل ولان المهمة صعبة والمسؤولية كبيرة وغيرها من الكلمات المغسولة التي تستعيد السيرة ذاتها ولكن بايقاع وشخصيات وخطاب مختلف. الرئيس السوداني الجنوبي جلس الى مكتبه ورأى ان الظروف مواتية لفصل جديد من ملحمة الاستقلال، فالفريق الذي رافقه منذ عامين بدأ يتمرد عليه او لا يتردد في توجيه انتقادات لطريقة حكمه او للكيفية التي يُصدر بها قراراته او الاساليب التي يدير بها دولة هي في حال من الفوضى والارتباك تكاد لا تختلف حالها عما كانت عليها قبل عامين، اللهم الا في وجود العلم والنشيد الوطني وحرس الشرف والموازنة المستقلة التي يقال ان عملية نهبها تتواصل بطرق شتى لا يُستثنى الرئيس من الاتهامات حول سوء الادارة والفساد والإفساد وتقريب المحاسيب وإبعاد المهنيين والاكفاء، على قاعدة اهل الثقة والولاء على حساب اهل الكفاءة. انقلاب «دستوري» يتخفّى خلف نص يقول «ان الرئيس هو الذي يأمر بتشكيل الحكومة وهو الذي يقيلها» ويتدثر بعباءة اعادة الهيكلة في دولة لم «تُهيْكَلْ» اصلاً، فهي لم تبن مؤسساتها ولم تُقِم اداراتها وبالكاد هي استطاعت «ضبط» افراد الميليشيات والتنظيمات التي كانت تقاتل نظام الخرطوم او انشقت عن تنظيمات رئيسية كالحركة الشعبية ذاتها، في اطار الجيش الوطني الجديد، الذي لم يسترح هو الآخر وخاض معارك في الداخل (مع المنشقين) كما مع جيش الشمال حول منطقة «ابيي» خصوصاً، اضافة الى تدهور العلاقات بين جوباوالخرطوم على خلفية رسوم مرور النفط الجنوبي في خطوط النقل الشمالية وغيرها من الملفات العالقة. «عرّابو» دولة الجنوب الذين كان جُلّ همهم هو اضعاف السودان وتقسيمه (لا تنسوا هنا مسؤولية نظام الخرطوم في هذه النتيجة بشكل او آخر)، لا يبدون اهتماماً بما آلت الاحوال اليه في الجنوب وعمّا اذا كان ديكتاتوراً آخر قد دخل نادي الديكتاتوريين في افريقيا او المنطقة العربية (ألم يكن الجنوب جزءاً من السودان، العضو في الجامعة العربية؟).. فخافة الرئيس سيلفا كي ميارديت... اهلاً بدولتك عضواً جديداً في منظومة الاستبداد التي لا يتبدل فيها سوى «جلدها» فيما الجوهر هو القمع والصلف والقتل والاقصاء والاجتثاث، حتى لو انتزعت الاستقلال وتغنّت بالديمقراطية والتعددية الجوفاء في واقع الحال. [email protected]