إن مفهوم الشريعة لم يكن مستقراً بالمعنى الذي تطرحه جماعات الإسلام السياسي، والذي حول، بفضل سيد قطب، النظرية السياسية والاقتصادية. خلاصة بحث يوسف الديني فتنة الحاكمية... قراءة في ممارسات جماعات الإسلام السياسي'، ضمن الكتاب 1 (يناير 2007) 'السرورية'' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي. طموح السيف لا يخشى إلاهاً... ميدل ايست أونلاين تتحدث النصوص الشرعية عن الحكم بمعناه التكليفي، ومنزلته في الشريعة، وتؤكد على ضرورة التزام المسلمين بهذه الأحكام المُنزلة من الله تعالى، والتي فيها صلاح المعاش والمَعاد. ولكن، تلك النصوص تبدو عامة ومجملة من جهة إطلاقها، ما لم يرد فيها حكم خاص، أو أحكام غير قطعية، من جهة ثبوت دلالاتها أو ثبوت صحتها. ومع ذلك، فقد تم نزع مجمل تلك الأدلة من سياق ما نزلت فيه، وما تدل عليه إلى التأكيد على ضرورة الالتزام بالحكم بما أنزل الله بشكل مطلق، من دون تفصيل في ماهية هذا الحكم الإلهي، وما يشمله من الأحكام، وكيفية الاستدلال عليه، وكيفية تطبيقه والتعامل مع اختلاف العلماء حوله، ومدى شرعية إلزام الأمة بهذا الاختلاف. إن أبرز الآيات التي يوردها مَن يتكلم عن مسألة الحاكمية هي آيات من سورة المائدة. يقول الله تعالى فيها: }إنّا أنزلنا التوراةَ فيها هُدىً ونورٌ يحكُمُ بها النبيَّونَ الذين أسلموا للَّذينَ هادوا والربَّانيُّونَ والأحبارُ بما استُحفِظُوا من كِتابِ الله وكانوا عليهِ شُهداءَ فلا تخشوا النَّاس واخشونِ ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يَحكُم بما أنزل الله فأُولئكَ هُمُ الكافرونَ* وَكتَبنا عليهم فيها أنَّ النفسَ بالنفسِ والعينَ بالعينِ والأنفَ بالأنفِ والأُذُنَ بالأُذُنِ والسِّنَّ بالسِّنِّ والجُرُوحَ قِصاصٌ فمن تصدَّقَ به فهو كفَّارةٌ له ومَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ الله فأُولئكَ هُمُ الظالمونَ* وقفَّينا على آثارهم بعيسى ابنِ مريمَ مُصدِّقاً لما بين يديهِ من التوراةِ وآتيناه الإنجيلَ فيهِ هُدىً ونورٌ ومُصدِّقاً لما بين يديهِ من التوراةِ وهدىً وموعظةً للمتّقين* وَلْيَحكُم أهلُ الإنجيلِ بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئكَ هُمُ الفاسقونَ* وأنزلنا إليكَ الكتابَ بالحقِّ مُصدِّقاً لما بين يديهِ من الكتابِ ومُهيمناً عليه فاحكم بينهُم بما أنزلَ الله ولا تَتَّبع أهواءَهُم عَمَّا جآءَكَ من الحقِّ لكُلٍّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمّةً واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيراتِ إلى الله مرجعُكُم جميعاً فيُنبِّئُكُم بما كنتم فيه تختلفون* وأنِ احكمْ بينهُم بما أنزلَ الله ولا تتَّبِع أهواءَهم واحذرهم أن يفتِنوكَ عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولّوا فاعلم أنّما يُريدُ الله أن يُصيبَهم ببعضِ ذُنوبهم وإنَّ كثيراً من الناس لفاسقونَ* أفحُكمَ الجاهليةِ يَبغُونَ ومن أحسنُ من الله حُكماً لقومٍ يُوقِنُونَ{ (المائدة: 44 – 50). فقد تم الاستدلال بهذه الآيات، على اعتبار أن اسم الفاعل وصف بالكفر على مَن لم يحكم بما أنزل الله. لكن سبب نزول الآية يدل على أنها نزلت في أهل الكتاب، في ما يختص بقضية محددة تتعلق بشريعة ثابتة محكمة، تم التلاعب بها، وليس تقنيناً لحوادث ونوازل مما لم يرد الشرع بالنص عليه تعييناً. وفي حين أن هذه الآيات تنتزع من سياقها التاريخي، وما يذكر بحال الأقوام الماضية، ممن كانوا يتلاعبون بالأحكام القطعية لأخذ الرشوة، أو عبر مسببات الحكم على مقتضى التمايز الطبقي بين المتحاكمين، فإن ثمة نزاعاً طويلاً بين المفسرين حول مقتضى وصف "الكفر" فيها: هل هو الكفر الأكبر المخرج من الملة، أم أن إطلاق الكفر هنا من باب الوعيد والتغليظ، والمقصود به الكفر بمعنى المعصية أو ما يُختلف حوله بحسب اعتقاد مَن يحكم بغير ما أنزل الله فيكون وصفه بمقتضى حاله؟ كل ما في كتب التفاسير، حول هذا الموضوع، ينصب على وصف التكفير دون الحديث عن مناط التكفير، أي بيان الحكم الذي يكفر صاحبه بعدم تحكيمه إياه، وهل يختص بما نص عليه أم يتعدى الأمور الدنيوية وما يدخل في باب السياسات العامة؟ ولعل عدم ورود هذه الاشكالات جاء نتيجة البيئة التي كان يشتغل عليها الفقه السياسي، والتي لم تتعدَّ مسائل الإمامة والخلافة التي تغاير تماماً واقع النظم السياسية المبني على النظرية السياسية الحديثة. ولعل أبرز الملاحظات حول تناول المفسرين لهذه الآيات من سورة المائدة، هو أنهم لم يكونوا معنيين بالتنصيص على إعطاء صفة الإطلاقية لكل ما ينسب للشريعة، أو اجتهاد الفقهاء، بحيث تكون مخالفته ضرباً من التحاكم إلى غير الله. أي أن مفهوم الشريعة لم يكن مستقراً بالمعنى الذي تطرحه جماعات "الإسلام السياسي"، والذي حول، بفضل سيد قطب، النظرية السياسية والاقتصادية، وحتى الموقف من مسائل حياتية متعلقة بالفنون والمعاملات إلى ضرب من الشريعة المحكمة، التي لا يجوز مخالفتها، ويعتبر من اجتهد وحكم بغيرها خارجاً عن الملة. هذا النقل الدلالي لمفهوم "الشريعة" وتحكيمها هو مفهوم معاصر، تم تدشينه بامتياز على يد أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، الذي يقول في سياق تفسيره لآيات المائدة: «فما يمكن أن يجتمع الإيمان، وعدم تحكيم شريعة الله، أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة. والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم «مؤمنون». ثم هم لا يُحكمون شريعة الله في حياتهم، أو لا يرضون حكمها إذا طُبق عليهم. إنما يَدّعون دعوى كاذبة، وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع». ومثل هذا الاستدلال بقوله تعالى: }إنِ الحُكمُ إلا لله{ (الأنعام: 57، ويوسف: 40 و67). ويدل كلام المفسرين على مماثلة مفهوم "الحكم" بمعنى المشيئة، وهو واضح من سياق الآيات، وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره: «أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله، وقد أمر عباده قاطبة أن لا يعبدوا إلاّ إياه». وقال الشوكاني: «أي ما الحكم في كل شيء إلاّ لله سبحانه، ومن جملة ذلك ما تستعجلون به من العذاب، والمراد: الحكم الفاصل بين الحق والباطل». وهذا ما يختلف تماماً عن التوظيف الجديد لمعنى الحكم بمعنى القانون العادل، المستوحى من عموميات النصوص الشرعية، التي نصت على ضرورة التزام العدل كمعيار أساسي لما يتم التوافق عليه بين الناس، ولم تنص على أحكام تفصيلية لأن الوقائع تتعدد وتختلف باختلاف الزمان والمكان، وهذا جزء من مرونتها وحيويتها على خلاف ما يدعيه دعاة "الإسلام السياسي". ونجد في السياق نفسه تفسيراً مغايراً لدى سيد قطب لما ورد أعلاه من سورة الأنعام، نقل من خلاله مفهوم الحكم، بمعنى الأمر الإلهي المتعلق بالمشيئة والقدر، إلى الحكم بمعناه القانوني التشريعي. قال: «إنّ الحكم لا يكون إلاّ لله. فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته، إذ الحاكمية من خصائص الألوهية، من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته، سواء ادعى هذا الحق فرد، أو طبقة، أو حزب، أو هيئة، أو أمة، أو الناس جميعاً في صورة منظمة عالمية. ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفراً بواحاً، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة، حتى بحكم هذا النص وحده».