بعينين معصوبتين بخرقة بالية من قماش القطن لكنها سميكة، يظل جمل عصارة زيت السمسم يلف ويدور حول نفسه لمدة قد تزيد عن الساعة والنصف دون أن يتعثر، وهو يحرك آلات العصر التقليدية الثقيلة إلى أن يستخلص آخر قطرة زيت من حبات السمسم الصغيرة البيضاء أو الحمراء والسر وراء تغطية العينين كما يقول حاج حسن حمد النيل وهو مالك عصارة تقليدية لعصر زيت السمسم، بسوق قندهار الشعبي بطرف مدينة أمدرمان،هو ان لا يشعر الجمل بالدوار وان يحتفظ بتوازنه وهو يدور حول نفسه هذه المدة الطويلة في مساحة ضيقة. وتبلغ مساحة الغرفة(المصنع) الذي يتحرك فيها الجمل حوالي الخمسة أمتار طولا وعرضا (5 في5)وهي بالكاد تتسع لجسمه الضخم وطوله الفارع . وهي مسقوفة بمواد بناء تقليدية مع ترك مساحة بين السقف و الحائط المبني من الطين لضمان تمتعها بالبرودة ومرور الهواء النقي . ويشرح حاج حسن أن برودة الجو مهمة لكليهما الجمل والأنسان الذي يشرف عليه ،لذلك يبدأ الجمل عملية العصر منذ الساعة الأولى من الصباح ويستمر في العصر لمدة ساعة ونصف ثم ترفع العصابة عن عينيه ليأخذ راحة قليلة ثم يستمر لدورتين أخريين من العمل حتى الحادية عشر والنصف قبل الظهر فيبرك ويأخذ راحة حتى المساء ليبدأ دورتين أضافيتين ويتوقف قبل المغرب. ويذكر أن أجمالي الدورات التي يلفها خمس في اليوم الواحد وهو يستمر في العمل هكذا لمدة اربع سنوات ليستبدل بعدها بجمل آخر لان حجمه يكون قد صار ضخما جدا بسبب المكوث في مكان واحد وبسبب العلف الذي يأكله حتى يستطيع العمل بكفاءة . وبحسب ما يقول فأن الجمل يعصر في اليوم كله ما مقداره 50 رطلا من حبوب السمسم مخلوطة بقليل جدا من الماء بمقدار معين قياسا على كمية السمسم .وتوفر هذه الكمية حوالي22 رطلا من زيت السمسم الأصفر شديد النقاء إضافة إلى 33 رطلا من الأمباز ذي اللون البني الغامق والصلب والذي يستهلك أو يباع علفا للحيوانات. الجمال فقط أي الذكور هي التي تستخدم في هذا العمل الشاق كما يقول حاج حسن، وليس النوق أي الإناث الأتي يتركن للحمل والإنجاب وليست هناك صفات محددة للجمل غير أن يكون (رباع) أي أكمل ست سنوات من عمره حيث يتم تدريبه على هذا العمل حتى يتقنه ، ثم يمارسه لأربع سنوات يباع بعدها ليستهلك لحمه محليا أو يصدر إلى الخارج إذ يصير سمينا . ويشتري حاج حسن حبوب السمسم من شمال كردفان وتحديدا من الأبيض أو أم روابة ويقول أن السمسم الأحمر الذي يزرع في نيالا ومناطق دارفور يحتوى على كميات عالية من الزيت وهو بالتالي اقتصادي في تجارته هذه ولكن لا يتوفر له هذا السمسم لانه يصدر إلى خارج السودان وأحيانا يكون غاليا لارتفاع تكلفة ترحيله وتتكون آليات العصر من جزع مجوف من خشب المهوقني شديد الصلابة ويسمى الأم ويبلغ طوله حوالي 70 سم وعرضه 60 سنتمترا يوضع بداخله السمسم المعد للعصر. يقول حاج حسن أن زيت المهوقنى يعد علاجا ثم عمود من خشب السنط و يقوم بعملية العصر ويتكون من جزئين متلاصقين الأسفل يعصر حبات السمسم والأعلى يوضع عليه ثقل من الحجارة هى التي توفر القوة التي تستخرج الزيت ويربط هذا الجزء في الجمل الذي يحرك كل هذا الثقل بحركته الدائبة ويشغل آليات العصر بصبر بلا حدود دون أن يصدر أية همهمة أو حركة تنم عن التعب أو الضجر.ويسمى هذا العمود بالولد كأنه أبن لذلك الجزع الضخم الذي توضع فيه حبات السمسم ويطلق بالتالي على الزيت المستخرج بهذه الطريقة (زيت الولد). ويقول حاج حسن إن هذا الزيت المستخلص بهذه الكيفية ،يتصف بخفته ولونه الأصفر الصافي وعدم مرارته وقدرته على البقاء سليما لعامين كاملين دون أن يتغير طعمه ويصير مر المذاق وكذلك عدم فساده وتزرنخه . ويضيف إن الفرق بينه وبين زيت المعاصر الحديثة أن الأخير يكون ثقيلا ويميل لونه إلى الأخضرار نتيجة لعصر أوراق السمسم مع الحبوب وكذلك بعض الشوائب الأخرى وهي ذات الأوراق والشوائب التي تجعل طعمه مرالمذاق وسريع الفساد. ويؤكد أنهم ينظفون زيت الولد من كل الشوائب وأن من يقوم بالنظافة عاملة متخصصة في هذا العمل تنجزه مقابل عشرين جنيها في اليوم . ويستطرد قائلا أن أهم ما يميز زيت السمسم وخاصة النقي منه هو كونه علاجا فعالا وشافيا ،إذ وفقا لتجربته الشخصية فأنه يشفي من التهاب الصدر والسعال والكحة وكذلك آلام المفاصل والعظام والملاريا . ويحكي إن السبب في مزاولته هذه المهنة التي يعمل بها منذ 45 عاما وورثها عن شقيقه الأكبر، أنه أصيب في العام 1970 بالملاريا وسعال ظلا يعاودانه مرارا وتكرارا. وكان الطبيب يعالجه بأدوية صيدلانية مركبة كيميائيا وأخيرا نصحه الطبيب قائلا هل تعرف زيت السمسم الذي يعصر بواسطة الجمل؟؟ فأجابه بالايجاب فقال له الطبيب أشرب منه ملعقة كل صباح على الريق لمدة شهر وسيكون ذلك شفاؤك بإذن الله. ويقول إنه رفض فعل ذلك بادىء الأمر لعدم استساغته شرب الزيت. لكنه أضطر وشربه في النهاية ومنذ ذلك التاريخ لم تعاوده الملاريا والكحة وهو ما شجعه على إحتراف هذه المهنة التي كان يمارسها أولا في منطقته بشمال كردفان في الأبيض وأم روابة وأنتقل بعد ذلك إلى الخرطوم . الماحي عمر وهو الفني الذي يشرف علي الجمل وادوات العصر التقليدية يقول هناك صناعا يحتر فون صناعة هذه الآدوات ويعرفون جيدا مقاسات طولها وعرضها وجودة الأصناف والمواد التي تصنع منها . ويبين أن الأم وهو وعاء العصر وهو أطول الاجزاء عمرا يصنع من خشب المهوقني الذي يأتي من جنوب السودان. ثم الولد وهو زراع العصر يصنع من خشب السنط وعمره يتراوح ما بين 4-0 أشهر ثم يستهلك ويستبدل بآخر جديد، ثم الحبل الذي يربط به الجمل وهو قصير العمر أيضا ما بين 4- 5 أشهر أيضا . ويؤكد مالك العصارة قائلا :ليست بالتجارة المكلفة تحتاج فقط إلى شراء جمل سعره ما بين 6-10 ألف جنيها وبعض المعدات التي قد تكلف 5 آلاف جنيها ومحل بسيط جدا وتستطيع أن تسترد رأس المال في فترة وجيزة أيضا . ويضيف تنتشر هذه الصنعة في مناطق انتاج السمسم خاصة في القضارف والأبيض والنهود وأم روابة لسهولة الحصول على السمسم و لقلة تكلفة الأنتاج ، وهي صناعة راسخة لها محترفيها وزبائنها الذين يستهلكون منتجها ورغما عن ميزاته هذه إلا أن الطلب على هذا الزيت وفقا لما يقول مالك العصارة محدود بسبب استهلاك المواطنين للزيت الذي تنتجه العصارات الحديثة، أو ربما يكون السبب في ذلك هو عدم انتشار محلات بيعه ومعرفة الكثيرين بأماكن صناعته والتي تتطلب وجودا خارج المدن أو أطرافها بسبب الجمل ذي العصابة الصبور. م عثمان /أق