- تمثل الحملة الانتخابية التي تشهدها البلاد حاليا إحدى حلقات التطور الانتخابي والتشريعي والبرلماني في السودان . فقد عرف السودان أولى التجارب البرلمانية بميلاد المجلس الاستشاري لشمال السودان الذي تكون عام 1943م من 28 عضوا جاءوا بالتعيين وضمن هذا المجلس الذي جاء إنشاؤه من قبل الإدارة البريطانية المصرية المستعمرة آنذاك السيطرة لرجال الإدارة الأهلية بنسبة 75% من عضوية المجلس الذي أعتبر السند الحقيقي للإدارة الحاكمة للسودان في ذلك الوقت. فيما اعتبرت الجمعية التشريعية التي قامت في أواخر عام 1948م أولى مؤسسة تشريعية تقوم في البلاد بالمفهوم الحديث لمؤسسات التشريع في العالم ، وجاء تكوينها في ظل موجة شعبية بعد مذكرة مؤتمر إدارة السودان التي رفعت إلى حاكم عام السودان في مارس 1947م وهو المؤتمر الذي شكله الحاكم العام في 22 إبريل 1946م بغرض إشراك السودانيين بشكل أوسع في إدارة البلاد بيد أن هذه التجربة احتفظت لرجال الإدارة الأهلية بتفوقهم بتمثيل ( نسبة 55 في المائة من عضوية الجمعية التشريعية) رغم أن القوى الأخرى من التجار والأعيان والمثقفين بدأت تأخذ متسعا في المؤسسة التشريعية مثلت هذه القوى نسبة تفاوتت من 5% إلى 29 في المائة من عضوية المجلس. واحتفظ نظام الجمعية التشريعية بمبدأ تعيين بعض الأعيان من قبل الحاكم العام بغرض ضمان تمثيل بعض السودانيين من ذوي الكفاءة الخاصة الذين قد يتعذر إيجاد مقاعد لهم في الجمعية بالطرق الأخرى التي يتم بها تكوين هذه الجمعية . ويشير (كتاب الانتخابات في السودان) الصادر عن مركز الدراسات الإستراتيجية في العام 1999م إلى أن قانون الانتخابات الذي استند عليه نظام تكوين الجمعية التشريعية قد أفرز أتباع طريقتي الانتخابات المباشرة في المدن والبلديات ، والانتخاب غير المباشر عن طريق نظام الكلية الانتخابية في الريف واتسم قانون الانتخابات في هذه المرحلة بإبراز أهمية تمثيل الكفاءات الخاصة . أما انتخابات العام 1953م التي أجريت في ظل اتفاقية الحكم الذاتي بين بريطانيا ومصر في فبراير 1953م فقد شكلت بداية انحسار نفوذ قوى النظام الأهلي ويعد قانون انتخابات عام 1953م أكثر تقدما من قانون انتخابات 1957م الذي ألغى دوائر الخريجين وحق المرأة في التصويت جراء إلغاء دوائر الخريجين . وفي أعقاب ثورة أكتوبر 1964م تم تعديل قانون الانتخابات لعام 1957م ليؤكد على حق المرأة في الاقتراع في الدوائر الجغرافية الأمر الذي لم يتوفر في قانون انتخابات 1953م وقضى هذا التعديل بخفض سن الناخب إلى 18 عام بدلا من 21 عاما ، وإعادة دوائر الخريجين من جديد وتخصيص 15 مقعداً لهذه الفئة بدلا عن 5 مقاعد الواردة في قانون 1953م . لقد شهدت البلاد منذ الاستقلال العديد من الانتخابات في العهود المختلفة سواء في ظل الحكومات الحزبية أو العسكرية وكانت السمة الغالبة في التعديلات التي طرأت على قوانين الانتخابات في فترات الحكومات الحزبية لخدمة مصالح حزبية ، فيما كانت تعديلات القوانين في فترات الحكم العسكري بغرض القضاء على منافذ سطوة الأحزاب السياسية أو القوى المناوئة لفترات الحكومات العسكرية باختلاف توجهاتها. أما المجالس النيابية التي جاءت بعد الانتفاضات الشعبية (أكتوبر 1964-إبريل 1985م) فقد جاءت لتعزيز دور القوى الحديثة التي تحملت عبء هذه الانتفاضات وذلك عبر تخصيص دوائر للخريجين كما عهدت بعض التعديلات إلى زيادة حظ الأحزاب الكبرى خاصة في الريف من خلال زيادة عدد الدوائر وإعادة رسمها في هذه المناطق والتغاضي عن ذلك في المدن ومناطق الوعي . مزجت عهود الحكومات المختلفة بين نظام الانتخاب المباشر وغير المباشر وبين نظام التعيين وبحكم المنصب وتفرد نظام مايو بتحديد دوائر جغرافية وجماهيرية لتمثيل منظمات النظام وقواه المتحالفة وشهدت هذه الفترة الزيادة في عدد أعضاء المجلس. ومن السمات التي برزت في التجارب النيابية في عهود الحكومات الحزبية عدم فوز حزب بأغلبية مطلقة تمكنه من الحكم منفردا ما عدا انتخابات 1953م التي فاز فيها الحزب الوطني الاتحادي بنسبة 52 في المائة من المقاعد رغم أن هذه الأغلبية بدأت في الانحسار جراء الصراع والخلاف بين السيد إسماعيل الأزهري رئيس الوزراء آنذاك وقيادة الطائفة الختمية ، فيما لم تواجه حكومات مايو والإنقاذ وقبلها حكومة الرئيس عبود معضلة الأغلبية في تكوين المجالس النيابية لطبيعة تركيبة النظم السياسية الحاكمة والرافدة لهذه المجالس في هذه الفترات. ومن السمات البارزة في تجارب تكوين وقيام المجالس التشريعية والنيابية في السودان الصراع الداخلي الحاد حتى داخل الحزب الواحد حيث عانت كل الأحزاب السودانية وبلا استثناء من خطر الانقسام خاصة في الفترة من 1965م وحتى الآن وكشفت أغلب الانقسامات عن دور الطموحات الشخصية للقيادات الحزبية في إذكاء هذه السمة . ومن السمات التي أفرزتها تجارب الحياة النيابية في السودان ازدياد عدد الأحزاب السودانية من انتخابات إلى أخرى حيث تصاعد العدد من خمسة أحزاب في انتخابات العام 1953م إلى 29 حزبا وتجمع انتخابي وأهلي في انتخابات 1986م مع بروز الجبهات والأحزاب الإقليمية في معترك المجالس النيابية خاصة مؤتمر البجة، اتحاد عام جبال النوبة ، جبهة نهضة دارفور وحزب سانو والتكوينات الحزبية الأخرى التي وصل فيها عدد الأحزاب المسجلة في عهد الإنقاذ أكثر من 70 حزبا وانعكس ارتفاع عدد الأحزاب في ازدياد عدد المرشحين من فترة لأخرى حتى على مستوى انتخابات رئاسة الجمهورية. ويضاف إلى ذلك سمة أخرى عرفت بها التجارب النيابية في السودان وهي أن المجالس النيابية لا تقوم في الغالب الأعم بدور مؤثر في صنع القرارات خاصة في حكومات الائتلاف الحزبي التي وضعت صناعة القرار الحكومي في يد قيادة الأحزاب المؤتلفة فيما عرف (بلقاء السيدين). ومثلت مشكلة تمثيل القوى الحديثة سمة أخرى في النظام النيابي في السودان وذلك أن المشرع الاستعماري قد فطن لأهميته هذه القوى وعدم مقدرتها على المنافسة مع القوى الطائفية والإقليمية فأفرد لها عدة مقاعد بالتعيين في الجمعية التشريعية وبالانتخاب في انتخابات 1953م واستمر تمثيل هذه القوى في الانتخابات التي تلت العام 1965م وحتى الآن . وتنبثق أهمية تمثيل هذه القوى الحديثة من أهمية الدور التي تلعبه قطاعات هذه القوى في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في السودان ويضاف إلى تمثيل القوى الحديثة بشكل عام ما أفردته قوانين الانتخابات ما بعد دستور العام 2005م في نسبة تمثيل المرأة في الحياة النيابية في البلاد وصلت إلى 25 في المائة في الوقت الحاضر. أما السمة الأبرز في تجارب الحياة النيابية في السودان فتكمن في عجز المجالس النيابية عن إنجاز (دستور دائم متوافق عليه) في البلاد وانتهت محاولاتها بالدستور الانتقالي الذي أجازه المجلس الوطني في أعقاب اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا في العام 2005م والذي تعرض بدوره إلى جملة من التعديلات بعد انفصال الجنوب . ع.أ