غريب أمر هذه الجامعة العربية، فهي خير من يُجيد «التقدم إلى الخلف»، تمر عليها السنين والعقود وهي تتراجع وتنزوي وتتحول مع الأيام إلى جسم بلا روح، تعبيراً عن تراجع العمل العربي المشترك وفقدان منظومة الدول العربية للإرادة السياسية المشتركة، حتى أصبحت عبارة عن أعجاز نخل خاوية.وحتى جاء يوم أبعدتها الخلافات العربية من مقرها العتيد في القاهرة إلى تونس، ولتعود بعد أن طوى الجميع «خلافاتهم المؤقتة» واستووا حذو النعل بالنعل على درب الرئيس المصري الراحل السادات، السلام مع إسرائيل، والاستسلام لمشيئة «القدر الأمريكي». مساء «الاثنين» الماضي انفضت القمة العربية الخماسية التي انعقدت في طرابلس للنظر في تطوير منظمة الجامعة العربية إلى «اتحاد عربي»، قمة حضرتها ليبيا ومصر والعراق وقطر واليمن التي تبنّت مقترحات التطوير، أو بالأحرى الانتقال بالعمل العربي المشترك من حالة «الجامعة العربية» إلى حالة «الاتحاد»، و(الاقتراح الأصلي) كما هو معلوم لأبد أن يكون مصدره ليبيا والقائد الأممي معمر القذافي صاحب القدح المُعلى في الدعوات الوحدوية والاتحادية، وفي الذاكرة دوره في تحويل منظمة الوحدة الأفريقية إلى ما أصبح يعرف ب«الاتحاد الأفريقي» ودعوته الحالمة ل«الولاياتالمتحدة الأفريقية». الاجتماع أُحيط بتكتم إعلامي شديد، لسبب غير معلوم، ولكن في النهاية عُرف السبب و«بطل العجب»، فكما هي العادة اختلف الزعماء العرب، برغم ضآلة عددهم - خمسة فقط - وتباينت آراؤهم حول الهدف الذي انعقد الاجتماع من أجله، وقالت وكالة الأنباء الليبية، مصدر الأخبار الوحيد عن القمة، إن القمة الخماسية انتهت إلى خلاف بين الداعين إلى «تسريع» إقامة «اتحاد عربي» وبين المطالبين باتباع «منهج التطوير التدريجي» والإبقاء على الجامعة العربية، وأرجأت البحث في إقامة «الاتحاد العربي» إلى القمة الاستثنائية العربية المقرر عقدها في أكتوبر المقبل، لكنها وافقت على اقتراح من الرئيس المصري حسني مبارك بأن يكون التغيير في اسم الجامعة في حدود إضافة كلمة «الاتحاد» فقط بحيث يصبح اسم المنظمة «اتحاد الجامعة العربية»، وهو على كل حال اقتراح يحتاج «مذكرة تفسيرية» لغوية في علاقة مفردة «اتحاد» و«جامعة» وما إذا كان «الاتحاد» شيئاً آخر من وجهة نظر اللغة العربية غير «الاجتماع والجامعة» من حيث المضمون والدلالة ليجتمعا في اسم منظمة واحدة، أم تُرى أن إضافة «اتحاد» الجامعة جاءت «لجبر الخواطر» والمجاملة مع الإبقاء على الاسم الأصلي كاملاً غير منقوص إلا من حيث التركيب، فقد كانت المنظمة تُدعى فيما مضى وحتى الآن ب«جامعة الدول العربية»!! البيان الختامي الذي نقلته الوكالة الليبية كان- على غير العادة- صريحاً حيث قال: إن الرؤية الخاصة بتطوير الجامعة العربية والأجهزة الرئيسية التابعة لها اتضح من النقاش الذي دار حول الموضوع وجود وجهتي نظر، تهدف الأولى إلى إحداث تحول جذري وشامل وبوتيرة سريعة لإقامة اتحاد عربي، والاتفاق على ميثاق جديد تُنفَّذ عناصره في إطار زمني محدد، في حين تتبنى الثانية منهج التطوير التدريجي والإبقاء على مسمى الجامعة العربية في المرحلة الحالية، و(إرجاء) بحث إقامة الاتحاد في أعقاب تنفيذ خطوات التطوير المطلوبة وتقييمها، وأوصت القمة بقيام الدول العربية بتأهيل مفرزة في قواتها للمساهمة في عملية حفظ السلام، ودعت إلى أن يصبح الأمين العام «رئيساً للمفوضية العربية» ويعاونه عدد من المفوضين يشرف كل منهم على قطاع محدد. بالإضافة إلى المطالبة بتسريع الخطى لإنشاء «البرلمان العربي» و«محكمة العدل العربية» وتشكيل «مجلس الأمن والسلم العربي» وتعيين مندوبين متفرغين يمثلون الدول العربية بدلاً من الجمع بين سفير في القاهرة ومندوب دائم لدى الجامعة العربية، مع إبقاء مشروع التطوير والحديث المتدرج (تحت النظر) لمدة تتراوح بين العامين وخمسة أعوام، واستبعاد أن يكون «جذرياً أو فورياً». ولتإكيد حكاية التقدم إلى الخلف التي بدأنا بها هذه «الإضاءة» نذكِّر القارئ عبر مقارنة سريعة بما كانت عليه الجامعة في سالف عهدها من حيث المؤسسات والمهام، وما ستكون عليه حتى بعد إضافة مفردة «الاتحاد» على اسمها الأصلي، فبينما يفكر القادة العرب- ممثلين في القمة الخماسية الأخيرة المخصصة ل«التطوير»- في تشكيل مجلس الأمن والسلم العربي وتخصيص مفرزة في القوت العربية مهمتها المساهمة في عمليات حفظ السلام، كان للجامعة في ماضيها ميثاق للدفاع العربي المشترك تساهم فيه الدول الأعضاء بقواتها المسلحة في ما كان يعرف ب«القوات العربية المشتركة» للدفاع عن أي بلد عربي يتعرض للعدوان.وبينما تفكر حالياً - ومن جديد- في إنشاء مجلس للحكومات العربية يعنى بالقضايا الاقتصادية - بحسب البيان - فقد كان للجامعة في ما مضى مجلس ل«الوحدة الاقتصادية العربية». صحيح أنه لا الجامعة ولا المنظمات والمؤسسات المتفرعة عنها، العسكرية والاقتصادية والثقافية أوغيرها، قد أنجزت ما هو مأمول منها بالنسبة للمواطن العربي، إلا أنها على كل حال كانت موجودة وبدرجة أقوى وأرفع في العمل العربي المشترك بحكم مواثيقها والمهام المنوطة بها، وإذا بالقادة الخمسة الذين اجتمعوا أخيراً في طرابلس وكأنهم يبدأون من الصفر، ويبحثون عن تسميات جديدة من شاكلة «المفوضية» ومجلس الأمن والسلم»، وكأن الأمر يتعلق في جوهره بالأسماء والأشكال، وليس المضمون والجوهر، ومع ذلك اختلفوا على كيف يتم التطوير، فوري وجذري أم متدرج ومتمهل ومتأمل!! العلة، عندي لا تكمن في «الجامعة العربية» إنما في ما «يجمع» الدول التي تجتمع في «الجامعة»- بإضافة كلمة «اتحاد» لاسمها القديم أو حتى بتغييرها ل«اتحاد عربي»- فما يجمع هذه الدول هو وجودها في رقعة جغرافية واحدة وانتماؤها لثقافة واحدة وتاريخ مشترك، لكنها تفتقر إلى أكثر عناصر الوحدة أهمية، وهو «الإرادة السياسية المشتركة» التي توحد الأهداف والغايات، فالقادة العرب بطبيعة خلفياتهم الفكرية ونظمهم السياسية وتحالفاتهم الدولية، ليسوا مستعدين لعمل عربي مشترك ذي أهداف وغايات موحدة «تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى»..!