توقفنا أمس الأول، الخميس، في الحلقة الأولى من هذه (الإضاءة) عند مظهرين من مظاهر (الاستحمار) الذي هو أشد نكاية من (الاستعمار) الذي يمارسه (الكهربائيون الجدد) تجاه المواطن المغلوب، ويتمثلان في ممارستين عجيبتين، الأولى: هي مبدأ (الدفع المقدم) لقيمة الكهرباء المستهلكة من قبل المواطن، وهي ممارسة تنفرد (بعبقريتها) مؤسسة الكهرباء عندنا دون كل المؤسسات، وحكومتنا التي أقرت هذه الممارسة دون كل حكومات الدنيا، وحولت بموجبها الكهرباء من (خدمة) إلى (سلعة) تجارية محضة معلنة بذلك نهاية (دولة الرعاية) في بلادنا، فالمواطن الذي لا يملك قيمة الكهرباء ويدفعها مقدماً عليه أن (ياكل ناره) ويعيش في الظلام، ويواجه العطش في بلد غالباً لا يحصل فيه الناس على المياه إلا بواسطة الطلمبات التي تعمل بالكهرباء.. والثانية: هي عداد الدفع المقدم الذي يشتريه المواطن من حر ماله بسعر مضاعف، ثم يستمر في استئجاره من إدارة الكهرباء ويدفع لقاءه كل شهر إتاوة تفرضها عليه تلك الإدارة بيدها القوية وهو صاغر ومذعن. المظاهر الأخرى ل(الاستحمار الكهربائي) الذي لا يرعى في المواطن إلاً ولا ذمة، فهو قيام إدارة الكهرباء بتمديد الكهرباء لبعض المناطق أو المنازل الجديدة التي لم تصل اليها الشبكة، ففي هذه الحالة تفرض الإدارة بقانون القوة- على كل مواطن أو مزارع أو صاحب مصنع في المنطقة أو الحي المعني أن يشتري الأعمدة والأسلاك وربما (المحول)، على أن يتنازل عن قيمتها فوراً ويسجلها ضمن أصول الهيئة أو الشركة، وهو بذلك يدفع قيمة تمديد الشبكة التي تعمل في تسويق الكهرباء له عبر آلية الدفع المقدم، وساهم بذلك في رفع رأسمال وأصول الشركة دون أن يحصل حتى على(كلمة شكر)، ليصبح بذلك المواطن في خدمة الهيئة أو الشركة وليس العكس.. أما(الاستحمار) الآخر -المهم والخطير- هو تعريفة الكهرباء في السودان، التي هي الأغلى سعراً في المنطقة وبين كل الدول النامية، وتوضح الأرقام التي أوردها الدكتور جون عبده في ندوة جمعية حماية المستهلك حول الكهرباء، مدى هذا (الاستحمار) الذي ليس له من مبرر سوى نهم الدولة ومؤسساتها ذات العيون المصوبة إلى جيب المواطن دائماً، بالرغم من قلة مافيه أوخوائه. فمتوسط سعر الكهرباء في مصر بحسب تلك الأرقام هو (3) سنتات، وفي معظم الدول الأفريقية والعربية أقل من (5) سنتات، بينما يصل في السودان إلى ما فوق (8) سنتات أمريكية.. وخطورة هذا (الاستحمار) هو أنه بالإضافة إلى الافقار والتضييق على المواطن يمتد إلى (فرص الاستثمار) المحلي والأجنبي، وهو وحده كفيل بالنزول بتلك الفرص إلى الحد الأدنى إن لم يكن العدم، فقد أصبح من المعلوم للقاصي والداني إن غلاء الكهرباء السودانية أصبح من عوامل الطرد الرئيسية، التي تتضافر مع البيروقراطية وبطء الإجراءات، لتجعل من الاستثمار السلس والناجح في السودان شيئاً أندر من (لبن الطير).. فغلاء الكهرباء على وفرتها، التي يتحدث المسؤولون والخبراء عن (فائض) في انتاجها يصل في المتوسط إلى 20% ويرتفع في الشتاء إلى نحو 40%، وفقاً لما ذكره وزير الكهرباء والسدود في آخر شهر مارس الماضي في اجتماع مجلس الوزراء، هو غلاء لا مبرر له سوى (الاستحمار) الذي يتحول في نهاية المطاف إلى (حمرنة) أي غباء وسوء إدارة وافتقار إلى الخيال الخلاق- فكيف لي أو لأي مراقب أن يفهم أن الدولة ومؤسساتها التي هي في أمس الحاجة لتعظيم فرص الاستثمار، وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، وتشجيع التنمية في مجالات الزراعة والصناعة أن تظل تعطل (ربع) طاقتها الكهربائية فقط، من أجل فرض تعريفة مرتفعة على الكهرباء، تماماً كما يفعل(تاجر التشاشه) الجشع، الذي يخزن السلعة ويظهر منها القليل حتى يبيعها بأكثر من قيمتها الفعلية، وفي هذا يقول صديق زراعي يملك مزرعة مختلطة وبيوتاً محمية في غرب أم درمان، وولج مجال الزراعة بحكم تخصصه وهوايته، أن ما (كسر ضهره) وأفقره هو الكهرباء التي قال إنها تشكل (60%).. نعم ستين في المائة من مجمل تكاليف الإنتاج، فينعكس هذا بالضرورة على قيمة الدواجن أو الخضروات المنتجة في مزرعته، أما إذا لا قدر الله وأحياناً يقدر بمشيئته التي لا راد لها- وأصاب زرعه أو دواجنه أي مرض طارئ أو بسبب الجو والمناخ، فإن ذلك سيكون كارثة محققة، بفعل تلك (الستين في المائة) التي لا يمكن تعويضها، والتي تنتظره أيضاً في دورة إنتاج لاحقة، وهذا ما يجعله دوماً في حالة إعسار و(مجابدة) مع البنوك وجهات التمويل، التي لجأ لها مضطراً بعد أن(بربحت) الزراعة موجوداته و(نزعت ريشه) ريشة ريشة. لكن هذه (الحمرنة) وهذا الفشل والإخفاق في إدارة الطاقة الكهربائية لا يقف عند هذه الحدود، بل يمتد الأمر ليطال الكيفية التي يصرّف بها أمر هذه الطاقة من أوله إلى آخره، فبالإضافة إلى الصراعات المعلومة والمشهودة بين مراكز القوى المتحكمة في أمر الطاقة الكهربائية نتيجة لمحاولات السيطرة و(تكبير الكيمان)، وبعد أن انتصر فريق على آخر ووضع كل شؤون الطاقة الكهربائية في جيبه، لجأ هذا الفريق إلى إلغاء المؤسسة الواحدة التي كانت قائمة على إدارة الكهرباء (الهيئة القومية) وتحويلها إلى ست شركات مستقلة: واحدة للتوليد المائي، وثانية للتوليد الحراري، وثالثة لنقل الكهرباء، ورابعة للتوزيع، وخامسة لكهرباء خزان مروي، وسادسة سميت شركة (المستقبل) للمشتروات.. فتوزع بذلك(دم الكهرباء) على كل هذه القبائل والشركات.. الدكتور مهندس جون جندي بطرس مدير المشروعات والتخطيط السابق بالهيئة القومية للكهرباء- السابقة أيضاً- أوضح لي في محادثة هاتفية إن هذا الوضع الجديد والتقسيم(العشاوي) للهيئة الذي لم يخضع لدراسة جدوى فنية، سيقود بالضرورة لتضارب المصالح والاختصاصات، خصوصاً في ضوء اختلاف تكلفة الانتاج بين التوليد المائي الرخيص، والتوليد الحراري الأكثر كلفة، حيث سيكون من مصلحة شركة التوزيع مثلاً أن تشتري الكهرباء الأرخص التي توفر لها ربحاً أكبر ثم أن كل هذه الشركات كانت إدارات متخصصة في هيئة واحدة، تنسق بينها وينتهي العائد إلى مصب واحد هو (خزينة الهيئة)، التي ترتب الاحتياجات والمتطلبات والمشتروات وفق الأولويات التي تقتضيها مصلحة العمل.. أما الآن فستكون هناك خمس أو ست مجالس إدارات مستقلة وسيصبح لكل شركة مدير ورئيس مجلس إدارة، وطاقم من المهندسين والفنيين والعمال ومبانٍ إدارية، ومواقع ومحطات تعمل في استقلال تام، وهذا يعني مضاعفة التكاليف الإدارية والفنية، بالإضافة للارتباك وغياب التنسيق والتناغم والانسياب الذي كانت تهيئه الإدارة الموحدة المتمثلة في الهيئة القومية للكهرباء، التي ورثت (شركة النور) التي تأسست على أيام الاستعمار(1925) و(الإدارة المركزية للكهرباء والمياه) التي أنشئت في مطلع الاستقلال (1956). وإذا كانت (الحكمة ضالة المؤمن) أنىّ وجدها أخذها، فإن على القائمين بأمر هذه البلاد، إذا كان يهمهم أمر المواطن السوداني وليس (المستشارين المستحمرين) أن يعيدوا النظر فوراً- ودون إبطاء أو تردد في كل شؤون الكهرباء، انتاجاً وإدارة وتسويقاً وأن يتلطفوا، هوناً ما بالفقراء والمستضعفين، وأن يهتموا بأمر الاستثمار المحلي والأجنبي(الجافل) بسبب الكهرباء، فاستمرار (الاستحمار) و(الحمرنة) في التعاطي مع شؤون الكهرباء سيزيد بلاشك من(الشحنات والتحميل الزائد والضغط العالي) في بلد لا ينقصها منه الكثير.. وهذا بلاغ للحكومة وللناس أجمعين قبل فوات الآوان!.