كنت قد نويت أن اتخذ لهذه «الإضاءة» عنواناً آخر هو «الاستعمار الكهربائي» لكن الحكاية «زنّقت مَعايا» وزاد «تحميل الضغط» على أعصابي فانقلبت «العين» «حاءً» فأصبح «الإستعمار»- بقدرة قادر- «استحماراً»، لا مؤاخذة.. وقلت بيني وبين نفسي وأنا أتأمل أحوال الكهرباء في بلادي و «فعايل الكهربائيين» لا يجب أن نظلم «الاستعمار ابن الناس»، خصوصاً الاستعمار البريطاني «الله يطراهو بالخير». فما نحن فيه اليوم من شأن الكهرباء يذكرنا «بالاستحمارالتركي» سيء السمعة وما اشتهر عنه في الذاكرة الشعبية من جشع ونهم وقسوة في جمع الضرائب وفرض الجبايات والإتاوات، حيث كان على السوداني في أقصى قرى السودان و «صقايعه» أن يدفع ضريبة على «قطيته» التي جمع أعوادها وقشها وبناها بيديه لتقيه حر الهجير وأنواء الزمهرير، بل أكثر من ذلك كان عليه أن يدفع للجباة الأتراك «المستحمرين» إتاوة أخرى كونه «موجود» ويتنفس «هوا الله الما حق زول».. إتاوة تسمى «الدقنية» أي لقاء «دقنه» حلقها أو رباها، فهي تكفي في نظر الجباه الأتراك لأن يكون السوداني قد بلغ مقام الرجال وعليه أن يدفع ثمن وجوده في وطنه. أما «الاستحماريون» الكهربائيون الجدد، فقد استحلوا «ركوب الفزرة»، وركوب الفزرة- لصالح الأجيال الجديدة- هو كناية عن الركوب على «الحمار الأفزر» الذي هو أكثر راحة من ركوب «الحمار الأحدب». استحلى الكهربائيون هذا الركوب المريح «فدلدلوا وخلفوا رجيلهم»، بل «كمبلو وعرضوا» تماماً «كعيال أب حويلي» في رائعة محمد الأمين الشعبية أو «لقوا الهوا وضرُّوا عيشهم» على قول المثل. موقف طاريء ومناسبة بعينها، هما ما أعاداني لقضية «الاستحمار الكهربائي» التي كنت قد تناولتها من قبل في هذه المساحة- تحت عناوين أخرى- مرات عديدة. الموقف الطاريء هو أنني ذهبت إلى إحدى مقرات «الهيئة القومية السابقة» لاشتري الكهرباء ففوجئت بصف طويل وعريض. فعلى طوله فهو عريض أيضاً، لأن السيدات والآنسات يتفادين بفعل الحياء الوقوف في الصفوف، فسألت جمهور المصطفين عن سبب كل هذا الزحام فأجابوني باختصار ينم عن الغضب و «تكهرب» الموقف والأعصاب: «شباك واحد طبعاً!». لم يكن بإمكاني الانتظار حتى ينتهي كل اولئك المصطفين. كان لدي موعد لتسليم المادة إلى الصحيفة واجتماع آخر مهم، فقررت أن أنصرف ولكن قبل ذلك استشعرت واجباً مهنياً واخلاقياً يحتم عليّ أن استفسر من مسؤولي المحطة. دخلت مكتب المدير، فوجدت سيدة، سألتها بحرقة: لماذا كل هذه الصفوف؟ وكانت سيدة فاضلة ردت بأريحية شديدة بأنه «ما في موظفين كلَّهِن اثنين وواحدة مشغولة مع الحسابات» فقلت لها بدارجية مبينة «من عدم شنو.. الفلوس ولا ما لاقين ناس اتوظفوا؟» ففهمت المعنى وأبدت تعاطفاً ولم تدافع عن سلوك الشركة أو «الشركات» فودعتها وخرجت. أما المناسبة فقد كانت ندوة جمعية حماية المستهلك التي انعقدت مطلع الأسبوع حول «الكهرباء والمستهلك.. ما له وما عليه»، تلك الندوة التي كان المتحدث الرئيسي فيها الدكتور مهندس جون جندي المستشار ومدير التخطيط السابق في الهيئة القومية للكهرباء، والتي طالعت بعض ما دار فيها من خلال الصحف، واتصلت به، بعد أن زودني رئيس الجمعية صديقي وزميلي د. نصر الدين شلقامي بهاتفه، فتحادثنا طويلاً عن هموم الكهرباء، ووعدني بتزويدي بكل المعلومات المطلوبة في شؤونها و «شجوها». لكنني اليوم أريد أن أتوقف فقط عند بعض مظاهر «الاستحمار الكهربائي» التي يعانيها الجميع يومياً ويعرفها القاصي والداني. تمهيداً «لإضاءات» قادمة حول الموضوع تكون أكثر تخصصاً وعمقاً وتتناول قضية الكهرباء من جميع زواياها وما آلت إليه أوضاع المؤسسة المعنية. أول مظاهر «الاستحمار الكهربائي» هو «الدفع المقدم»، فهي علاقة- بالإضافة ل«الاستحمار»- تنطوي أيضاً على «التجريم» باعتبار السوداني «حرامي وما مضمون!». فما من بلدٍ في جهات الدنيا الأربع يحصل فيه «المواطنون» على الكهرباء من خلال الدفع مقدماً غير السودان. فصيغة الدفع المقدم سواء كانت عن طريق العملة المعدنية أو الكروت الممغنطة تعمل بها بعض الجهات في بعض البلدان للشقق المفروشة للسياح أو الزوار الطارئين حتى تضمن أن لايغادر الزائر الشقة أو الغرفة ويترك وراءه حساب الكهرباء. لكن النهج المعتاد في كل الدول- غرباً وشرقاً- هو أن التحصيل يتم عبر فاتورة تأتيك آخر الشهر أما عن طريق البريد أو عن طريق المتحصل، لسبب بسيط هي أنك مواطن ومقيم ولديك عنوان ثابت، والكهرباء «خدمة» قبل أن تكون «سلعة» ومن حقك الحصول عليها كبعض حقوق المواطنة، بل تدخل ضمن «حقوق الإنسان»، ومن حق الدولة أن تتقاضى قيمتها ولكن بالطرق المعتادة والمعهودة. فالدفع المقدم يعني ببساطة أنه إذا لم يكن لديك قيمة الكهرباء فعليك أن تعيش في الظلام و «تاكل نارك» حتى يفتح الله عليك. ما ينتفي معه عملياً- وعلى عينك يا تاجر- علاقة «الرعاية» بين الدولة والمواطن في بلد أكثر من 90 في المائة من شعبه يعيشون تحت خط الفقر. وهذا يمكن اختصاره في عبارة «الاستحمار الوطني الكهربائي».. ألم تر- يا صاح- كيف أن الأمم ومنظمات حقوق الانسان تجاهد هذه الأيام من أجل تأمين الكهرباء والمياه للمدن المحاصرة في سوريا وليبيا مثل درعا ومصراته والزنتان بينما نحن نموت اظلاماً وظمأ «كالعير في البيداء يقتلها الظمأ والماء على ظهرها محمول»! أما ثاني مظاهر ذلك «الاستحمار» الذي ما بعده «استعمار» فهو «حكاية العداد»- عداد الدفع المقدم- الذي يشتريه المواطن ويدفع قيمته «التجارية المضاعفة» فور تركيبه، ثم يظل يدفع ايجاراً شهرياً له «ستة جنيهات ونصف» إذا كان ثلاثة خطوط أو «جنيهين ونصف» إذا كان خطاً واحداً. سيقولون لك تبريراً لهذه المعاملة «الربوية» أو أكل اموال الناس بالباطل- الله اعلم- إن ما دفعته في البداية لم يكن سوى «مُقدم» أو قيمة تركيب العداد، ناسين إننا نعيش عصر الشفافية وتبادل المعلومات ويمكننا بكل يسر الحصول على القيمة الفعلية لذلك العداد الذي يشتريه المواطن بسعر مضاعف وكم دفعت لقاء الحصول عليه. هذان مظهران مباشران من مظاهر «الاستحمار الكهربائي» الذي «يكهرب» الأجواء وانتظروا المزيد.