رغم علاقتي الوثيقة بأخي الفنان التشكيلي محمد الحسن أحمد منذ مرحلة الدراسة الثانوية في مدينة شندي، إلا أنني اكتشفت بالأمس أنه يَحقِن نفسَه بنفسِه من آلام الرطوبة وبجرعة الأنسولين، وعرفت منه أنه عندما كان مغترباً في اليمن قبل سنوات كان ممرض البيت والجيران.. وسبب اندهاشي أن محمداً عرفناه منذ أيام الدراسة خطاطاً ورساماً رقيقاً وأنيقاً بعيداً عن عالم الحقن والعيادات.. وسألته عن علاقته بالحقنة والحقن.. فقال: إنه كان في معية زملائه من طلاب كلية الفنون الجميلة في رحلة علمية بولاية النيل الأزرق، ومرض عدد من زملائه بالملاريا في منطقة نائية ليست بها عيادة ولا ممرض، فلم يكن هناك مفر إلا أن يقوم بمهمة حقنهم، وبالفعل توكل على الله وحقن كل زملائه المرضى، والذين تماثلوا بحمد الله للشفاء، بل وأثنوا على صنيعه، وعلقوا أن يده كانت باردة..! وفي المحطة التالية من رحلتهم، تعرف على ممرض عيادة في إحدى القرى، فتعلم منه الطريقة الصحيحة لإعطاء الحقنة، وقال إن المخدة كانت هي(الموديل) الذي استخدماه لتلقي الإبر طوال فترة التعلم القصيرة.. ! وواصل محمد المشوار، وكانت التجربة الأصعب التي مر بها هي حقن أولاده، ولكنه وتحت ظرف صعب في اليمن.. اضطر لحقن ابنته، ثم أصبح الأمر من بعد ذلك هيناً وعادياً، وواصل حقن أبنائه متى ما دعت الضرورة لذلك. اندهشت كثيراً وقلت لمحمد رغم معرفتي بك إلا أنها المرة الأولى التي أعرف فيها هذه المعلومة القيمة.. وأحييك على شجاعتك، وعلى هذه التجربة التي نحتاجها جميعاً، وقال محمد رداً على كلامي: ليس في الأمر شجاعة.. بل هي مسألة عادية صنعتها الضرورة، وهناك كثيرون يقومون بهذه المهمة التي قد لا تستحق كل ما قلت..! قلت: نعم صحيح إنها مسألة قد لا تستحق كل ذلك المداد، ولكن مر أمامي شريط ذكريات طويل عن الحقنة التي يخوفونا بها عندما كنا صغاراً.. فإذا لم نمتثل لأي أمر.. كان التهديد والحقنة قبل الممرض، وحتى هذه الأيام فهناك كثير من الأمهات المتعلمات يُخوفن أبناءهن بالحقنة وبالممرض! وتجاذبنا أطراف حديث طويل عن الإهمال الذي نمارسه نحن على المستوى الشخصي والأسري تجاه أنفسنا وأبنائنا، وقلت له: أنا واحد من الناس لم أمسك إبرة حقنة بيدي، ولم أفكر في أن أتعلم حقن غيري ونفسي.. وحين طلبت مني إحدى بناتي أن أسمح لها بتعلم الإسعافات الأولية لأهميتها، لم أتحمس كثيراً.. ولم أساعدها على تحقيق تلك الرغبة التي كنا سنستفيد منها جميعاً..! وتساءلت كم بيت من بيوت قاطني العاصمة وولايات السودان يوجد فيه صندوق للإسعافات الأولية أو الطارئة.. وقد يوجد الصندوق تذكاراً لزمن مضى ولكن قد لا يوجد فيه أي أدوية مسعفة..! ومن منا لديه المعرفة والخبرة لينقذ مريضاً أو ليسعف حالة طارئة في الطريق العام أو في المدرسة أو المسجد أو في الحافلة أو الطائرة مثلاً؟.. وكثيراً ما يستنجد المضيف في الطائرة وعبر المايكروفون: لدينا حالة طارئة، هل يوجد طبيب في الطائرة..! وأذكر في إحدى الرحلات الخارجية، استنجد المضيف بالركاب: هل من طبيب، وتقدم طبيبان إمراة أوروبية وكان الطبيب الثاني سودانياً، وكانت حالة وضع في الطائرة..! وقبل سنوات خلت وعلى القطار المتجه من الخرطوم إلى حلفا وفي محطة نمرة عشرة تحديداً، وضعت إمرأة طفلة بمساعدة سائحة أجنبية أوروبية، وتناقشنا حول تسمية المولودة هل نسميها نمرة عشرة أم على اسم السائحة الأجنبية.. وبالأمس القريب وعشية مباراة برشلونة ومانشيستر يونايتد، شهدنا في مدينة مدني حادثاً دهس رجلاً وقع على الأرض وهو ينزف، وأسرع كثيرون لإسعافه، ولكن الطريقة التي حمل بها إلى السيارة كانت خاطئة، وقد أجمع عدد ممن تابعوا معنا المشهد من نافذة الباص السياحي..! والغريب أن الفيلم الذي شاهدته في الليلة نفسها للممثل مايكل دوغلاس أن (حفيدته) ابنة الممثلة الفاتنة (جنيفر لوبيز) في الفيلم .. حقنت صديق أبيها المريض الممثل (مورغان فريمان) مضطرةً لعدم وجود أحد غيرهما في المنزل، وقد أدت المهمة بنجاح.. وعجبت لتوارد الخواطر حول هذا الموضوع الذي كان في ذهني منذ سنوات حول الإسعافات الأولية والطارئة وقد ذكرني إياه أخي محمد ثم هذا الفيلم.. وقد شاهدت قبل سنوات فيلماً ذا قصة مغايرة مفادها أن الطفلة لم تتمكن من الوصول إلى الثلاجة بالسرعة المطلوبة، ثم مع سرعتها لتوصيل الدواء إلى جدها أو والدها لا أذكر، انكسر منها الدواء، ومات المريض، ومع وخز الضمير المستمر لسنوات طويلة.. تمرض هي نفسياً ويصبح الحدث عقدة حياتها! وفي حياتنا المعاصرة هناك اهتمام كبير بالإسعافات الأولية، وفي عدد من السيارات الجديدة والقديمة ومن طُرز متنوعة، صندوق صغير للإسعافات الأولية.. ولكن عند البعض حاله حال صندوق الإسعافات القديم في البيت قد لا توجد فيه الأدوية المُسعفة المطلوبة وقد يكون خالياً..! وتجد أن الثلاجة في البيت تضيق أرففها من الأدوية المتنوعة التي قد انتهت صلاحيتها أو لم تعد ذات فائدة، ولكن قد لا يوجد في الثلاجة نفسها مرهم للجروح أو العيون أو حبوب للصداع!واقترح على التأمين الصحي وهو يبسط مظلته الشاملة في كل أرجاء السودان، أن يتبنى فكرة تقديم هدية(صندوق إسعافات أولية) لكل بيت في السودان، حتى نساعد في إسعاف الكثير من الحالات الخطرة التي تحدث في البيوت وقد تستفحل إذا لم نتمكن من إسعافها في الحال، هناك حالات التسمم سواء من جراء أكل أو شرب معين أو من لدغة عقرب أو حشرة، وهناك حالات الحروق وآلام العين والأذن.. وربما تساهم بعض الشركات في هذا المقترح، وتكون بذلك قد قدمت خدمة جليلة لأهل السودان.. وإذا أردنا أن تكون الفائدة أشمل.. فعلى القائمين على أمر التأمين الصحي بالتعاون مع وزارة الصحة الاتحادية ووزارات الصحة الولائية، وفي المدارس والجامعات والهلال الأحمر والكشافة والمرشدات ومنظمات المجتمع المدني ذات الصلة.. أن تكون هناك برامج تدريبية مستمرة حول كيفية إجراء الإسعافات للحالات الطارئة.. وكيفية التصرف إذا وقع حادثٌ ما داخل المنزل أو خارجه.ولا شك أننا إذا نجحنا في تلك البرامج والدورات التدريبية.. فإننا نكون قد قدمنا خدمة عظيمة للمجتمع كله، وقللنا كثيراً من الآثار الخطيرة التي قد تنجم من عدم إسعاف الشخص منذ الوهلة الأولى وهي مهمة جداً للمرحلة التالية من علاجه، إذا لم يكن الإسعاف الأولي قد أدى الغرض المطلوب.وأذكر وفي القلب حزن مقيم، وفاة صديقنا الصحافي الفلسطيني(عدنان) في إحدى دول الخليج قبل سنوات، وكانت سيارة الإسعاف قد أسرعت به تجاه المستشفى، ولم يكن في السيارة أسطوانة غاز صالحة لضخ الأوكسجين.. قال عدنان لمسعفيه وهو يلفظ أنفاسه: ذبحتوني!