كل مهنة لها أهلها، فإن امتهنها غيرهم فسدت، لذلك سميت الكفاءة والقدرة على أداء الوظيفة بالأهلية، أي أنك أهل لها. والاسكافي(النقلتي) الذي لا يتوفر على المهارة يخرج من السوق فور دخوله، لأن الناس سرعان ما يكتشفون أنه دخيل، وأنه ضعيف فلا ينصرف اليه أحد، وغالباً ما يجد الرجل من ينصحه بأن يجرب عملاً آخر يناسبه، فالله تعالى (ما شق حنكاً ضيعه) والنبي الكريم(صلى الله عليه وسلم) قال ما معناه: كل امرئ ميسر لما خلق له، فقد تكون جندياً بارعاً شجاعاً طائعاً للأوامر تعشق فنون القتال وتاكتيكاته، ولكنك توهمت أن التجارة تناسبك لأنها تدر لك مالاً لبداً، وأنها مهنة أسرتك فتتخذها فتفشل وتهلك. وأما السياسيون في بلادنا، وربما في غيرها من البلاد المتخلفة فإنهم لا يحتاجون الى مؤهلات، ولا يجابههم أحد بشروط تغربل أهل المهنة والميسرين لها من غيرهم، وإذا كان هناك غربال تدعيه الأحزاب فلابد أنه واسع الثقوب، بما يضمن لها أكبر عدد من المؤيدين الذين شق الله حنكهم فجعلوه للسفسطة والمغالطة والغش والخداع، فإذا توفرت تلك النعوت غير الحميدة كان العضو أهلاً لتقدم الصفوف في هياكل التنظيم السياسي، شريطة أن يلتزم ويخلص لإرادة قادته.ونتيجة كل ذلك، ما تراه العين اليوم. كل من هب ودب بات يتصدى للشأن العام بغية تحقيق مصلحة سهلة المنال، فالعمل السياسي يدر مالاً الآن أكثر من الاغتراب، ومن غربلة الذهب والتجارة في السوق السوداء. معلمو الابتدائي والضباط الإداريون، وقدامى العساكر، وكثير من المحاسبين والمحامين، والزراع وغيرهم انصرفوا جميعاً الى المهنة الأيسر والاسرع عائداً، ولا تحتاج الى شروط نجاح سوى التبعية لأحدهم ومناصرته بالكلام في الحق والباطل سيان، فقط بمجرد الكلام في الهواء وفي الهوى، وهكذا يضمنون قوت عيالهم، وأي قوت؟!، والعجب إذا حصل أحدهم على منصب عضو مجلس تشريعي، الله أكبر، وحبذا لو أكل الناس حنك، فصعد بذلك ليكون رئيس لجنة برلمانية يا سيدي يا سيدي.. المخصصات التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطرت على قلب الغلابا. وهكذا فقدنا خيرة المعلمين في مدارسنا، وخيرة الإداريين الزمان، والمحامين الذين كانوا ميسرين لمهنهم الأصلية فابدعوا ونفعوا المجتمع من خلالها، فقدنا أسهامهم هناك ولم ننل منهم وطراً (كسياسيين)، إلا الثرثرة والفشل والذرائع. هذه واحدة من سلبيات نظام الحكم الفدرالي، فلقد تنزلت الى الأقاليم مناصب مرموقة، كانت حكراً على الجلابة!، والآن يتنافس عليها أبناء كل اقليم بحسب درجة وفرة الكوادر عندهم، وهكذا طمعت المنخنقة والنطيحة والمتردية والموقوذة، وما أكل السبع في المنصب الدستوري، كحق جهوي مشروع، ولكن وفقاً لشروط الولاء والبلاء التي ذكرناها آنفاً، ومن لم يحقق ما يصبو اليه من مكاسب وفق هذه الشروط السيئة، فإنه يحمل السلاح ويتمرد، بينما أبناء تلك الأقاليم نفسها الأقدر والأولى، من حيث مستوى التعليم والمؤهلات الأخلاقية والفنية، ومن حيث الخبرات العملية والمواهب والقدرات الابداعية، فإنهم مستبعدون ومهاجرون في بلاد الله الواسعة، والنبي الكريم يقول ما معناه (إذا وسّد الأمر الى غير أهله فانتظر الساعة) فمتى الساعة؟ صلينا على النبي؟ كصحافيين فإنه لا يسمح لنا بممارسة الصحافة حتى نثبت إننا أهل لها، ولذلك فلا مقام لك في صحيفة تحترم نفسها، إلا إذا كان عندك قيد صحفي تحصل عليه بعد تمحيص لمؤهلاتك اللغوية والفنية والتحريرية والثقافية الخ...وكذلك المحامون والقانونيون يخضعون لامتحان مزاولة المهنة والأطباء يذوقون الأمرين في فترة الامتياز، وفي التخصص ناهيك عن فترة الدراسة، وأيضاً المعلمون يخضعون للتأهيل والامتحان فيسقطون وينجحون كتلاميذهم تماماً، والسائقون والحرفيون والنجارون والميكانيكية، وكل الناس لا يزاولون مهنهم ويسترزقون بها إلا بعد تأهيل واختبار باشراف خبراء ومعلمين كبار، لا يفرقون بين الخيار والفقوس إلا عبر غربال الشروط والفحص المباشر... إلا السياسيون.. فهم (غالباً) غير موهوبين وغير مؤهلين أخلاقياً أو فنياً لذلك فهم (غالباً) انتهازيون وأنانيون (مكنكشون) وذوو ألسنة طوال فحسب، وهذه الثلاث هي أبرز مؤهلات قطاع كبير منهم، ولذلك تعاني بلادنا كل هذه المعاناة ويعاني شعبنا كما لم يفعل غيره، الناس كلهم يقولون السودان مشكلته سياسيوه. فلماذا لا يضاف الى قانون تنظيم الأحزاب/ تنظيم العمل السياسي ما يوفر (شهادة قيد سياسي) من هيئة تنظيم العمل السياسي؟ وبدون هذه الشهادة لا يسمح للأحزاب بتسجيل أي عضو حتى لو كان رئيس الحزب. فبهذه الطريقة البسيطة وحدها، سيطمئن المواطن أن من سيترشح لاحقاً لأي منصب عام مهم، أو من يعارض حكومة، فإنه لابد مفحوص وناجح مسبقاً، وبالتالي فهو مشهود له من جهة جادة وعادلة أنه مؤهل: أكاديمياً وثقافياً وأخلاقياَ، وأن لديه وعياَ وطنياً وسياسياً واقتصادياً وقانونياً، وأنه يستطيع أن يدير دولاب العمل العام، ويقود الفريق بروح الفريق، وهو واسع الصدر واسع الأفق، ووحدوي لا عنصري ولا جهوي، وكذلك موهوب وعنده ذوق وأخلاق ولباقة، يستطيع أن يعمل من فسيخ واقعنا هذا شرباتاً جميلاً.