مؤتمر باكثير: إنني أشكر أحبائي في جماعة أدباء السودان، فلقد أهتموا بي كثيراً عندما دعوني لكي أحضر معهم مؤتمر علي أحمد باكثير ومكانته الأدبية، ولم أكن أعرف القليل ولا الكثير عن باكثير، ولكنني صرت اليوم من المعجبين بأدب هذا المفكر الكبير، فهو يمني من حضرموت، ولكن اختار أن يحيا في مصر الثقافة فصار أدبياً مصرياً، يدفع مع غيرة الثقافة دفعاً عجيباً ومقدراً، وفي المؤتمر تعرفت على كثيرين، ولكنني أعتز بتعرفي على السيد محمد أبو بكر حميد، وهو رجل مثقف، وقد أوقف نفسه على بحث كل ما كتبه باكثير، ونشر الكثير من كتبه، وله عدة أعمال تأليفية، أمامي الآن، أصدره المجلس الأعلى للثقافة في مصر، الأعمال الروائية، علي أحمد باكثير، القاهرة2010م، والكتاب يحوي العديد من المقالات، ويحوي أيضاً ثلاثة روايات كتبها باكثير، وهي «سلامة القس- وأسلاماه- ليلة النهر»، وتعد الروايات الثلاث أجمل ما كتب باكثير الذي جاء إلى مصر من حضر موت يحلم بإمارة الشعر، خلفاً لأحمد شوقي، ولكنه تخلى عن هذا الطموح لصالح فن المسرحية، وقد بدأ أول ما بدأ برواية سلامة القس، ولأنني واحد من الذين يتشرفون بأنه قس، فلقد أعجبت بالرواية، وعرفت أيضاً ما لم أكن أعرف، وإذا كان باكثير يتحدث عن رواية واقعية استلهم موضوعها من تاريخ القرن الأول الهجري، وأحداثها تدور في أول مركز إسلامي وهو مكة، فإن هذا يعني مقدار احترام أهل مكة لكل قس مسيحي، وهذا يعني أيضاً احترام متزايد للمسيحية، فالقس هو رجل مسلم اسمه عبد الرحمن بن عبد الله، بن أبي عمار، وهو مسلم ملتزم الصلوات في وقتها، ويصلي في جامع مكة المكّرمة، ويشعر بوخذ الضمير أن تأخر قليلاً، وهذا الشاب المسلم له أمٌ صالحة ربته منذ الصغر على التقوى والعبادة، وزرعت في قلبه حب الفقه في الدين، وكانت تكفيه هموم عيشه، وتقوم بتدبير المال الذي تركه أبوه لهما إذ مات، ولما يبلغ عبد الرحمن الثانية من عمره، فتولت تربيته، وسلمته لأحد أقاربها فحفظ عنه القرآن قبل العاشر، وحببت إليه المسجد الحرام، فكان يعتكف فيه أغلب الأيام، يروي عن علمائه الحديث ويتلقى عنهم الفقه، ولا يرجع إلي بيته في أطراف مكة إلا آخر النهار، فيجلس إلى أمه يدراسها القرآن ويذاكرها الحديث. وكان همّ هذه المرأة وشوقها وتطلعها، أن ترى ابنها الوحيد عالماً فقيهاً مثل سعيد بن المسيَّب، وعطاء بن رباح، وكانت تدعو في صلاتها أن يمنحها هذا الأمل، ولم تمت حتى رأت ابنها علماً وعالماً، رأته مضرب المثل في مكة في الفقه والعبادة، حتى لقبه أهل مكة القس، وغلب عليه هذا اللقب حتى صار لا يعرف إلا به، وكان عنواناً للشاب العفيف في عبادة الله، وكان يستفتي من شيوخ، وكانت كل امرأة وهي تدلل رضيعها تطلب من الله أن ينشأ الرضيع نشأة القس، وكان كل رجل يتمنى أن يكون ولده مثل هذا القس. فيلم سلامة: وقد نجح باكثير في عرض قصة القس، ذلك الشاب الذي تحرك قلبه نحو الحب، ووقع في غرام سلامة، وهي جارية ولكن لها صوت عذب، ومقدرة على التلحين، وعندما قدمت قصة سلامة فيلماً قامت الفنانة أم كلثوم بدور سلامة، ولم يكن غيرها يقدر على هذا، والفيلم موجود حتى الآن، ولكن لا يعرض كثيراً، بينما ينبغي أن يعرض عدة مرات لأنه سوف يكون بركة لأجيالنا، ودليلاً كبيراً على مساحات الود والاحترام بين المسيحية والإسلام، لقد كتب باكثير روايته عام 1943م، ورسم صورة للحب العذري العفيف، فلقد أحب القس سلامة، ولكنه ظل عفيفاً جداً معها لأنه كان يرى الله في كل شيء في حياته، فلقد اختار باكثير آية مدخل من القرآن الكريم عن يوسف الصديق والعفيف، في قوله تعالي: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ» سورة يوسف24، لقد حول باكثير القصة التاريخية الواقعية إلى رواية جميلة، تؤكد أن كل شاب يمكن أن يلتزم بالعفة رغم ظروف العصر، ومضايقات الزمان، وفي الوقت نفسه هذا دليل مؤكد على أن الإسلام منذ أن بدأ أعطى المسيحية مكانتها، والقس مقامه الروحي الودود، «ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ» سورة المائدة82. .