هو داء خطير لا ريب، وبالإمكان أن نضرب المثل من حيث يلتمس الناس العلاج، أى وزارة الصحة برغم أنها بقيت لشهور بلا وزير، إن لاستقالة وزيرها نعمة أخرى، فهي على الأقل أعفته من أن يشمله اتهام خطير فجره الوزير السيادي الذى أفتى بضعف مؤهلات بعض شاغلى المناصب الوزارية.. والموضوع قديم متجدد: أيهما أنفع، المتخصص أم عابر السبيل ومن تأتى به الموازنات؟! وزير سابق مرموق عالي التخصص إعترف صراحة بأن سلفه فى منصب وزير الصحة كان أنجح منه، لسبب بسيط هو أنه من خارج المهنة أى وزير ليس طبيباً.. أثارت هذه الإعترافات جدلاً فى ذلك الوقت، وهى أصلاً مثيرة للجدل علمياً وعالمياً: أيهما أصلح، الوزير المهني أم السياسي؟ والواقع أن المسألة لا تثير الحيرة فى مجال الإستوزار فقط، ولا فى وزارة الصحة دون غيرها، ولقد كان وراء إثارتي لهذا الجدل الآن ما أثاره صحفي اقتصادي فى ورشة لتوثيق تجربة الصحافة المتخصصة نظمها الأسبوع الماضى المجلس القومي للصحافة. الصحافة الاقتصادية هل وراؤها الصحفى خريج كلية الإقتصاد أم الصحفى المهني؟ وكم من الصحافيين الإقتصاديين والمتخصصين وصلوا لمنصب رئيس التحرير فى صحيفة يومية سياسية حتى الآن؟ . مقدم الورقة الأستاذ عثمان سوار الدهب هو مثال للمتخصص الوفي الذي بقي فى خانة الصحافة الإقتصادية ليضرب المثل فى (الأبوة)التى (إتهمه) بها صحفي من الجيل اللاحق وهو الأستاذ عبد العظيم صالح المتخصص فى الصحافة الإقتصادية، ويشغل الآن منصب مدير التحرير فى صحيفة يومية واسعة الإنتشار، ورئيس تحرير بالإنابة عند اللزوم، وبالإنسجام التام مع شاغل المنصب بالأصالة.حكاية(الأبوة) ربما كان مبعثها أن عثمان أول صحفي خريج اقتصاد إلتحق بصحيفة الأيام 1967 ولكنه أكدها بإشادة باذخة منحها للملف الإقتصادى بصحيفة «الراى العام» على أيام ولاية ابنته سمية سيد، التي وصلت لمنصب رئيس تحرير بعد ذلك، وجاء تعقيبها على الورقة رقيقاً، وأكاد أقول رقيقاً جعل انطباع الحضور منحازاً لرأى المناقش الأول عبدالعظيم صالح بشأن أبوية كاتب الورقة، والتي أخذ عليها سكوتها عن الأسماء المؤثرة من غير جيله، بينما المقام للتوثيق. هذه الأبوية تعددت مظاهرها حتى استطبناها كأسلوب فى القيادة، وذكرتني بالصحفي الكبير الأستاذ محمود أبو العزائم، المدير الحاسم الذي رسخ لمنهج الأبوية المهنية، عليه رحمة الله.. لكن أبوة صديقنا سوار تكاد تبلغ درجة الوصاية، وفيها ميل للتوريث كما ألمحت الورقة.. شكل الوصاية والتعالي المهني كشف أيضاً عن استهجانه لصحفي لا يعرف «آدم اثمث» مع أنه خريج اقتصاد. حمدت له أريحيته وتعقيبه بأنه سيستدرك المآخذ فى كتاب له حول ذات التجربة.. الورشة تناولت صحفاً أخرى غير الإقتصادية، لكن النقاش انصرف منها لخارجها حول ظاهرة أهل التخصص وحظهم من التميز مهنياً ومسألة المؤهلات التي تتعرض لفوضى والأمثلة عديدة، ولقد عزز القول بإنها شكلت ظاهرة ذاك التصريح الصحفي الخطير لمسؤول ينتقد مؤهلات بعض شاغلي المناصب، هل هي الشفافية بلغت بالحكومة أن تبادر بكشف أسرارها وهى مقبلة على هيكلة جديدة وأشواق للتغيير وهز الأشجار المتضخمة؟. هذا عصر أيديولوجيته الشفافية والجودة والإحسان والتخصص، الوظائف القيادية بالذات تتطلب التخصص على أن تدعمه عناصر الموهبة القيادية، وامتلاك ناصية المبادرة، وفن البدائل، وقيم التجرد وثقافة الرجل المناسب فى المكان المناسب.. الأمر أمر مؤهلات تفي بحاجة العصر كعصر للبحث العلمي والتخطيط الاستراتيجي والمنافسة بالجودة في مواجهة مهددات لا يجدي معها العويل وانتظار البعيد، يجدي فقط الاستعصام بقيمنا والتأهيل بأسلحة العصر، فالعلم والقيم كفيلان بالتوازن الذى يحمي من الإرباك والتدحرج. الأمر يحتاج لمن يضرب المثل عملياً، متخصص لكنه منفتح على الناس وما يهمهم، مواصل، مهتم بالعمل الخيري، يتبسم فى وجه أخيه، وإذا تخلف الإمام واتجهت إليه الأنظار صعد المنبر . ليتنا نجد مسؤولاً يضرب المثل بتخصص يسعف البلاد بمؤسسات رشيقة ناجحة، بلا فساد، تسعد بإنتاجها البرية. وللخواطر بقية: في حضورمميز من المتخصصين شاركوا فى الورشة بما يوحي بأنهم «أناس» معلومات وتحليلات وموازنات فتصورت أن الصحفي الإقتصادي هو الأقرب لمنصب رئيس تحرير الصحيفة اليومية الناجحة، سألت أحدهم عن فرص هذا (الإحتمال) فاكتفى بالقول وارد) لكن الأمثلة العملية لم تسعفه . الجلسة رأسها الأستاذ فضل الله محمد خريج القانون) الذى بدأ صحفياً وأصبح رئيساً للتحرير).. قانوني آخر فى مجال الصحافة وجدها فرصة لمدح تجربة فضل الله الصحفية، واعتبرها نموذجاً لنجاح مهني متكامل. هناك من يعتبرون المؤهل القانوني ميزة فى مجال الصحافة، ويتردد الآن أن صفة (قانوني) مرجحة أكثر فى من يرشح للمنصب المرموق الشاغر حتى كتابة هذا السطور.. لقد ثبت أن تطور الصحافة رهين التطور فى قانونها والإحتكام إليه أثار دخول الجامعيين مجال الصحافة جدلا فى السبعينات ، واليوم الجدل حول مدى تأثير كليات الإعلام والإتصال على الأداء الصحفي؟ في الحالين المقارنة واردة مع من نجحوا دون شهادة تؤهلهم للمهنة، المسألة محيرة فعلاً وفي عدة مهن أخرى فالأمثلة عديدة والحدود ليست فاصلة، أما المستقبل فتتحكم فيه التكنولوجيا ويحكمه التخصص حتماً وبعده (الإلمام من كل شيء بطرف. فى اجتماعات المجلس العلمي بالجامعة التقنية التي أحاضر فيها يتغلب صوت المستقبل دائماً:(طالب هذه الكلية سيتخصص مستقبلاً فى ماذا؟ الأداء الجيد لا يجلب لصاحبه المشاكل، ولكن حين يكشف الأداء عن علة فى من شغل منصباً لم يتخصص له، يتفجر موقف كارثي حيث يسهل رميه بأنه دخيل على المهنة.. ولاحول ولاقوة إلا بالله.