لفرق بين الكرامات والأحوال الشيطانية كان الصوفية الأوائل يدققون فيما يحصل لهم من خوارق العادات خوفاً من أن تكون أحوالاً شيطانية، يحكى في هذا الباب عن أبي يزيد البسطامي أشهر أصحاب الشطحات رحمه الله تعالى أنه صلى ليلة فأضاء البيت كأنه نصف نهار، فقال أبو يزيد البسطامي طيفور بن عيسى رحمه الله - :(إن كنت شيطاناً فأنا أعز وأمنع جانباً من أن تطمع فيّ، وإن كان من عند الله فإني أسأله أن يؤخره من دار الخدمة إلى محل الكرامة). وقال أبو يزيد البسطامي رحمه الله تعالى - :(لو نظرتم إلى الرجل أعطى من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود وأداء الشريعة) وجاء في حلية الأولياء لأبي نعيم: حدثنا أحمد ثنا منصور ثنا موسى قال:: جاء رجل إلى أبي يزيد فقال: بلغني أنك تمر في الهواء قال: وأي أعجوبة في هذا؟ طير يأكل الميتة يمر في الهواء والمؤمن أشرف من الطير. وقال أبو يزيد:(الذي يمشى على الماء ليس بعجب، لله خلق كثير يمشون على الماء ليس لهم عند الله قيمة). وقيل لأبي يزيد: فلان يقال إنه يمر في ليلة إلى مكة فقال: الشيطان يمر في لحظة من المشرق إلى المغرب وهو في لعنة الله. وقيل: إن فلاناً يمشى على الماء، فقال أبو يزيد: الحيتان في الماء والطير في الهواء أعجب من ذلك. وقال أبو يزيد: لو أن رجلاً بسط مصلاة على الماء وتربع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه في الأمر والنهي. وقد استطاع الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله سره أن يبين لنا الفرق بين الكرامة والحالة الشيطانية، وقد اعتمد شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره على فهم الشيخ عبد القادر الجيلاني في بيانه للفرق بين الكرامة والحالة الشيطانية في كتابه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وقد استطاع الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله أن يطبق ما عرفه وذكره نظرياً على ما وقع له من خوارق، فقد حكى الشيخ موسى بن الشيخ عبد القادر الجيلاني حكاية عن والده مضمونها أنه رأى نوراً أضاء له الأفق، وبدت له صورة ونودى منها: يا عبد القادر أنا ربك لقد أحللت لك المحرمات، قال أبو الحسن الشطنوفى المقرئ المصري بإسناده: قال الشيخ موسى بن الشيخ عبد القادر: سمعت والدى يقول: خرجت في بعض سياحاتي إلى البرية، ومكثت أياماً لم أجد ماء فاشتد بي الندى فرويت، ثم رأيت نوراً أضاء به الأفق وبدت لي صورة ونوديت منها: يا عبد القادر أنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات أو قال: ما حرمت على غيرك، فقلت أي عبد القادر الجيلاني أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إخسأ يا لعين، فإذا ذلك النور ظلام وتلك الصورة دخان، ثم خاطبني وقال: يا عبد القادر نجوت مني بعلمك بحكم ربك، وقوتك في أحوال منازلاتك، ولقد أضللت بهذه الواقعة سبعين من أهل الطريق الصوفي فقلت أي عبد القادر لربي الحمد والمنة. قال الشيخ موسى بن الشيخ عبد القادر: فقيل له أي لوالده كيف علمت أنه شيطان؟ قال بقوله لقد أحللت لك الحرام. وقال الإمام الشعراني الصوفي في طبقاته الكبرى (1: 109) عن الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله (وكان رضي الله عنه يقول: تراءى لي نور عظيم ملأ الأفق، ثم تدلى فيه صورة تناديني: يا عبد القادر أنا ربك، وقد حللت لك المحرمات، فقلت أي الجيلاني إخسأ يا لعين، فإذا ذلك النور ظلام وتلك الصورة دخان، ثم خاطبني: يا عبد القادر نجوت مني بعلمك بأمر ربك وفقهك في أحوال منازلاتك، ولقد أضللت بهذه الواقعة سبعين من أهل الطريق فقلت أي عبد القادر لله الفضل، فقيل له: كيف علمت أنه شيطان؟ قال: بقوله قد حللت لك المحرمات). وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الحكاية في فتاويه أكثر من مرة وذكرها في مرة في أساس أنها كرامة في كتابه (أعمال القلوب بين الصوفية وعلماء أهل الحديث) وقال بعد ذكرها (ومن المحتمل أن الأسطورة دخلت في سياق هذه الكرامة، ولكن مغزاها يشير إلى تفشي دعاوى الكرامات، ووقوف الشيخ في وجه هذا التيار الجارف حتى لا ينساق الصوفية ومريدوهم إلى الإنسلاخ عن الشريعة، ولعل تسلسل الوقائع في قصة هذه الكرامة تشير إلى هذا إذ تشير سبب نجاة الجيلاني بما جاء على لسان الشيطان في مخاطبته له: يا عبد القادر نجوت منى بعلمك...) ص42 المرجع المذكور. ونحن نختلف مع فضيلة الأستاذ الدكتور مصطفى حلمي في تعليقه على هذه الحالة. وهو في رأي لا يمثل امتداداً لمدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتحليله لهذه المسائل وحديثه عن هذه الحالة وغيرها يؤكد لنا أنه يمثل مدرسة جديدة تطلق الأحكام العامة على التصوف، أي تنكر التصوف جملة وتفصيلاً. وقد ذكر شيخ الإسلام بن تيمية قدس الله سره قد ذكر حكاية الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله سره مع الشيطان الذي ظهر له وقال له: أنا ربك، ذكرها ابن تيمية قدس الله روحه في فتاويه أكثر من مرة ليبين أن الحالة الشيطانية قد تحدث لولى الرحمن، وأن العالم من الشيوخ يستطيع معرفتها كما حدث للشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله فالجيلاني كان على علم ودراية بدينه، ولذلك عرف أنه شيطان، فلا يمكن أن تكون الكرامة لهدم الدين أو لتحليل الحرام، فالحرام لا يحلل مهما كانت الأسباب والدوافع وقد سئل الشيخ عبد القادر الجيلاني: كيف عرفت أنه شيطان؟ فقال: بقوله إنني أحللت لك المحرمات، ويبدو أن الشيخ العالم عبد القادر الجيلاني عرف أنه شيطان بأسباب أخرى لم يذكرها، لأنه يرى أن المسلم لا بد أن يكون عالماً بها، فالشيطان الذي قال له: أنا ربك، ظهر في شكل محدد، والمسلم يعلم أنه لن يرى ربه في هذه الدنيا يقظة، فمسألة عدم رؤية الله سبحانه وتعالى في الدنيا يقظة ليس فيها خلاف بين الفرق الإسلامية. والشيخ عبد القادر على علم بأن وجوه المسلمين المؤمنين سوف تنظر إلى ربها في الآخرة في الجنة، قال تعالى:(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (سورة القيامة الآية 22 23). وقال تعالى:( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ...) (سورة الأحزاب الآية44) وقال تعالى:(كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ* ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ) (سورة المطففين الآية15-17). ومسألة رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة فيها خلاف بين السلف من جانب والمعتزلة والإباضية من جانب آخر، وهذا الخلاف الفرعي بينه الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى في فتواه الشهيرة عن الإباضية والتي انتصر فيها للسلف أو رجح فيها رأي السلف في مسألة رؤية الله في الآخرة في الجنة وتناولها أيضاً الشيخ أحمد بن حمد الخليلي الإباضي مفتي السلطنة العمانية أمد الله في أيامه ومتعه بالصحة والعافية في كتابه (الحق الدامغ) الذي رد فيه على سماحة الشيخ بن كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان من غير ذكر اسم الشيخ عبد القادر، ذكر ابن تيمية هذه الحكاية في بيانه لبيان الفرق بين الكرامة والحالة الشيطانية، وفي بيانه أن الحالة الشيطانية قد تحدث لولى الرحمن ويستطيع العالم من الأولياء معرفتها. وقد ذكر حكاية الجيلاني الأستاذ الدكتور المصري الجنسية مصطفى حلمي الذي نال جائزة الملك فيصل للعلوم الإسلامية في سنة من سنواتها مناصفة مع الأستاذ الدكتور محمد رشاد سالم الذي حقق عدداً كبيراً من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذكر الأستاذ الدكتور مصطفى حلمي هذه الحالة الشيطانية على العطش فأظلتني سحابة، ونزل علىّ منها شيء يشبه