ثلاثي بديع.. أبدع في رسم لوحة باهرة ثم وضع خاتمه في أسفل اللوحة.. هدية بالغة البهاء.. باهرة الضياء.. للشعب السوداني البديع المدهش النبيل.. كان ذلك في أعقاب مجزرة الشجرة عندما سالت دماء الشرفاء أنهاراً في تلك الأيام المشتعلة بالجحيم.. والرفاق من اليساريين.. تمزق أجسادهم طلقات الرصاص أو تتأرج أجسادهم مقطوعة فوق شرفات العالم. وهي ترسم أرق كلمات الحنين إلى الزمن الآتي.. وفريق منه ضمته وحشة السجون وبشاعة الزنازين.. وصرير أبواب وجنازيز وأقفال الحراسات وهي تحت إمرة الغلاظ من السجانين.. في تلك الأيام الحالكة السواد.. كان وردي.. خلف أبواب تلك الأسوار الشاهقة حبيساً في معتقلات نظام مايو.. معزولاً.. عمداً.. عن شعبه وأسرته ومعجبيه ومحبيه.. وتشاء الأقدار أن تنشر إحدى الصحف قصيدة بل أغنية بالغة الجمال والبهاء.. شديدة التنغيم.. تحت اسم قلت أرحل.. بقلم الفتى المبدع التجاني سعيد.. يقيض الله لرفيقة عمر ودرب وردي توأم روحه.. الراحلة المقيمة زوجه «علوية» أن تصافح عيونها تلك القصيدة.. ولأنها.. رفيقة وتوأم روح وردي الفنان.. فقد حملها روحها الفنان.. إلى تسريب تلك القصيدة المنشورة على الصحيفة.. إلى زوجها الموسيقار.. رئة الشعب وقيثارة المواطن.. وردي.. كان لابد من حيلة.. تجتاز بها تلك الكلمات المدهشة.. أسوار السجن العتيقة المنيعة الشاهقة.. لم تجد «علوية» حيلة غير «لف» بعض أغراض وردي بتلك الصحيفة.. وصلت كلمات «أرحل» في سلام إلى وردي.. الذي طفق يضع لها لحناً يليق بتلك الكلمات الباهرة.. وما أصدقك يا «محجوب شريف» وأنت تنشد مخاطباً الطاغية.. نغني ونحن في أسرك.. وترجف وأنت في قصرك... وهاهو وردي يترجم كلمات محجوب.. بل يجعل منها واقعاً معاشاً.. ففي تلك الحجرات الزنازين الرطبة وعلى صرير وجلبة «الترابيس» ووقع أحذية الحراس الغلاظ.. ينفجر لحن «أرحل» ثم تسافر في فضاء الوطن.. هدية من عملاق.. إلى شعب مدهش نبيل وعملاق.. ودعونا نرحل إلى أرحل... قلت أرحل ... أسوق خطواتي من زولاً نسى الإلفة أهود ليل أساهر ليل أتوه مِن مرفأ لي مرفأ أبدل ريد بعد ريدك عشان يمكن يكون أوفي رحلت وجيت في بعدك لقيت كل الأرض منفى ... عيونك زي سحابة صيف تجافي بِلاد وتسقي بِلاد وزي فرحاً يشيل مني الشقا ويزداد وزي كلمات بتتأوّه تتوه لمن يجي الميعاد زي عيداً غِشاني وفات وعاد عمّ البلد أعياد وزي فرح البعيد العاد وزي وطناً وكت أشتاقلو برحل ليهو من غير زاد بدون عينيك بصبح زول بدون ذكرى وبدون ميلاد رحلت وجيت في بعدك لقيت كل الأرض منفى زمان الفُرقة والتجريح بسيبو بسيبو عشان تشيلو الريح بسيبو عشان صحيح الذكرى بتّوِّه عُمرنا صحيح وانتِ معايه لا بندم ولا بقضي العمر تبريح أصلو العُمر شوقاً كان حزناً كان ... وصبراً كان فسيح وفسيح ... أصلو العمر كان درباً مشيتو كسيح وكان غرساً ... سقيتو بُكى وقبضت الريح رحلت وجيت ... في بعدك لقيت كل الأرض منفى ...منفى