خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه المجاهدون لمعركة بدر الكبرى لسبع خلون من رمضان في السنة الثانية للهجرة النبوية المباركة، وكان القصد اعتراض قافلة تجارية للمشركين بقياة أبي سفيان، ويقدر الله أن تصبح معركة يشهد لها التاريخ وتحدث طنيناً في أذن الزمان، فما أجدرنا أن نحكي ذكراها المؤثرة ونقف عند دروسها المستفادة وعبرها العظيمة، ثم نستعين بذلك كله زاداً للمسير ووقوداً للعبور. فالقوم هم القوم كأنهم قريش والحق هو الحق مرماه لن يطيش يقول تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهونü يجادلونك في الحق بعدما تبيّن كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرونü وإذ يعدك الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرينü ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) الآيات (5، 6، 7، 8) سورة الأنفال. لقد كانت بدر الكبرى فرقاناً بين الحق والباطل، ميز الله فيها صفوف المؤمنين واختبر عقيدة الجماعة الأول وابتلى صدق إيمانهم، لقد كان الاختبار باكراً وتعالت فيه جماعة الإسلام على أهوائها وأعرافها وأنسابها لصالح الدعوة والرسالة، لقد كان العرب في الجاهلية قبل الإسلام يعرفون الحروب وقد خبروها، ويعرفون القتال والموت وقد جربوه، لكنهم لأول مرة في التاريخ يقاتلون لأجل قضية، لأجل عقيدة بعيداً عن دواعي القتال الجاهلي والحمية القبلية.. لقد خاضوا غمار بدر بفهم جديد وعزيمة جديدة، فقد كانت التجربة قاسية والامتحان كبيراً.. ترى الرجل في صف المسلمين وأباه في الصف الآخر.. الخال ها هنا وابن أخته في الصف الآخر.. الرجل هنا وأخاه هناك.. أمر عجيب وموقف عصيب تتحول فيه كل المعاني وكل الجهود لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا.. ثلاثمائة رجل يتصدون لألف أو يزيدون.. ولكنها إرادة الله (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ü ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون). نعم يريد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة.. تصبح دولة.. تصبح قوة وسلطاناً.. أراد الله لهذه الجماعة القليلة أن تقيس قوتها إلى قوة أعدائها فترجح كفة الإسلام، ولتعلم أن النصر بيد الله وليس بيد العدو.. وأنه بقوة الإيمان وليس بقوة العدة والعتاد، ليس بغلبة الوسائط المادية ووسائل الاتصال، وإنما بمقدار اتصال القلوب بالله، أراد الله لذلك الدرس أن يكون عميقاً، ولعل التجربة خير برهان لقد أصبحت دولة الإسلام من المحيط إلى الخليج، ألم يكن النصر بيد الله الذي أرسل الملائكة فنصرت القوة المستضعفة على الكثرة المتجبرة. إن لكل دعاية لابد من برهان، ولكل فكرة لابد من تطبيق، ولكل نظرية لابد من تجريب.. ما أسهل الإدعاء الأجوف والانتفاخ الأهوش إذا ما احتاج للبرهان والدليل، إذن كان لابد لهذه العصبة المؤمنة أن تؤكد حقيقة إيمانها وأن تعبر إلى الله بطريق تتناثر على جنباته الشهوات والرغبات الشخصية. إن تجربة بدر كانت درساً عملياً استفاد منه المسلمون وارتفعت أرواحهم المعنوية من بعده، فما أحوجنا لتلك المعاني والدروس والثقة في نصر الله وارتباط القلوب به، معاني الثقة بالنفس والاستعداد لمقتضيات خلافة الله في الأرض. من الدروس العظيمة المستفادة من بدر هو درس الشورى الذي تمثل في الأخذ برأي الصحابة قبل بداية المعركة، فذلك الجندي الحباب بن المنذر يبدي رأيه في موقع المعركة.. فقال بأدب: يا رسول الله هل هذا منزل انزلكه الله فليس لنا أن نتجاوزه، أم هو الحرب والرأي والمكيدة؟.. قال النبي صلى الله عليه وسلم (بل هو الحرب والرأي والمكيدة).. قال الصحابي (إذن ليس هذا بمنزل، فسر بنا يا رسول الله ننزل أدنى ماء من العدو، ثم نغور ما وراءه ونعيد الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء..).. فنزل النبي حيث أشار الصحابي الحباب بن المنذر. ومن الدروس تفقد الروح المعنوية، فهي سر انتصار الجيوش في كل زمان ومكان، أعدت لها المعاهد العسكرية العليا في زمننا هذا، وأفردت لها إدارات وقيادات كبرى في الجيوش المعاصرة، فتعالوا نتعلم كل ذلك من النبي الخاتم.. النبي القائد، قبل خمسة عشر قرناً من الزمان وقف الرسول صلى الله عليه وسلم أمام أصحابه بين يدي المعركة فقال (أشيروا عليَّ أيها الناس).. فقام المقداد بن عمرو زعيم المهاجرين فقال: (يا رسول الله مرنا بما أمرك الله فنحن معك ولا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.. والله لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك حتى نبلغه أو نهلك دونه). ثم تلفت النبي مرة أخرى، وقال: «أشيروا عليَّ أيها الناس، فنهض سعد بن معاذ زعيم الأنصار وقال لرسول الله كأنك تريدنا.. قال نعم.. فقال سعد أما نحن فصدق في الحرب، صبر في اللقاء، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً والله لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد فامضِ بنا لما أمرك الله لعل الله يريك منا ما تقر به عيناك». بعد هذا الحديث الإيماني المؤثر، وهذه العبارات القويات قدم النبي لأمته درساً آخر فما هو؟ رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه للسماء ليربط أسباب الأرض بالسماء، ويرفع تمام الجيش الرباني لرب العالمين، معلناً لنا كيف نفوز إذا ادلهمت الخطوب وكتبت علينا المواجهة، لا عليك إلا أن ترفع أمرك إلى الله القوي الجبار المنتقم، ثم أفرغ وسعك تجد الله معك. قال الرسول مناجياً ربه (اللهم هذه قريش قد خرجت بخيلها وخيلائها تحارب دينك.. وتقاتل رسولك.. اللهم إن تهلك هذه العصبة لا تعبد في الأرض بعد).. وما زال يدعو ويلح في الدعاء حتى بان بياض إبطيه فنزلت: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفينü وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله...)، ما دام المسلمون مؤمنين واثقين يتطلعون لنصر الله، فهو ناصرهم أبداً بالكيفية التي يريدها هو، وهكذا بدأت وانتهت أول وأعظم معارك الإسلام من حيث بدأت دولة الإسلام التي صنع فصلها الأول ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً ربانياً أحسن الله لهم الأجر وحفظ لهم التاريخ الإسلامي حسن صنيعهم، ففي مدارسة سيرتهم خير، وفي تسمية أولادنا بأسمائهم بركة.. رضي الله عنهم أجمعين.