العرب أهل حضارة ثقافية عطرت السيرة البشرية ثم توجت هذه الحضارة بتكريم رباني للغة العرب بأن أنزل القرآن الكريم بها، ثم أنهم بعد الفتوحات الإسلامية صاروا أهل دولة وحكم وسياسة واقتصاد وعلوم، لدرجة أن معظم رواد العلوم التجريبية والرياضية كانوا من العرب، أما العلوم العسكرية فقد أثرى القادة العرب والمسلمون ساحاتها بالجديد من فنون القتال وعوامل النصر المادية والروحية، لقد جمعوا العلوم فبهروا الدنيا شرقاً وغرباً وقتها. أمة كان ذاك تاريخها وواقعها اليوم من حيث الإمكانات والموارد أفضل من السابقة، ما دهاها لم يعد العرب يتقدمون ركب الأمم كما كانوا، إنهم رغم التقدم الاقتصادي إلا أن قصور النظر السياسي والاجتماعي والفكري لا يزال يكبل كل حياتهم، لقد ذهب بريق وألق الثقافة العربية من سماوات الفكر والثقافة العالمي، لقد تجنى الغرب والمتغربون على ثقافة العرب تعلموها وعرفوا مكامن قوتها فأفرغوها وطغت سلوكيات الغرب على ثقافة العرب، لقد أدخلوا اللغة العربية وثقافتها في مصاهر مزجت اللغة بأكاسيد متعددة وكثيرة وحارقة غيرت بعض حروفها لفظاً ونطقاً، بل وتغيرت حتى معانيها ودلالاتها. أخيراً ثقافياً لقد انغلق اللسان العربي الثقافي على نفسه فتراجعت الثقافة وتبعتها اللغة وتذيلت منظومة اللغات الحية في عالم اليوم، ولولا أنها لغة القرآن الكريم التي ينطقها الأعاجم لما سادت ولا انقرضت حروفها وحقها النحوي واللغوي، لقد تعامت قلوب وعيون وعقول العرب عما تحت أيديهم وبين جوانحهم من كنوز ثقافية عربية هزت أركان الدنيا من الشرق إلى الغرب، وللأسف فإن الإعلام العربي نفسه ساهم في تفاقم هذا القصور الثقافي والفكري وبتوجيه من الآلة الإعلامية العالمية المسيطرة عليها. العرب قوة اقتصادية لا يستهان بها، وتأثيرهم على مجريات الأحداث العالمية واضح بيّن وقوي منذ استخدام البترول سلاحاً في وجه الغرب في حرب 1973م، مما جذب الانتباه وأخذته في الاعتبار القوى العالمية ضمن حساباتها الإستراتيجية، لذا عملوا لاحقاً على دخول كل مناطق الموارد تحت سيطرتهم إما مباشرة أو غير مباشرة، بحيث أصبح لا الدولة العربية أو الجهة الاقتصادية المعنية تستطيع التحكم أو التصرف في المنتج أو ريعه إلا بعد الموافقة الغربية المهيمنة، وهذا يفسر تقاعس وعزوف أو اختفاء الدعومات العربية العامة أو الخاصة عن ساحات العمل الإنساني، إلا ما سمحت به البيوت الغربية الكبيرة وما استطاعت من الدول العربية التحايل أو المغامرة والتملص، سلطت عليها عوامل التدمير الاقتصادي الشامل لذا أذعن الباقون. القصور الاقتصادي أو تقاصر الاقتصاد العربي عن القيام بدوره المتوقع، صاحبه تمدد لفعاليات اقتصادية غير عربية سدت عليه الأفق، فاقتحمت كل المجالات التي كان يمكن للاقتصاد العربي أن يلعب دوراً رائداً فيها، سواء في المنطقة العربية أو الأفريقية أو الآسيوية، وكأنما اتفقت كل الدوائر الغربية الاقتصادية على جعل الاقتصاد العربي بموارده المتعددة والمختلفة يدور في دائرة مغلقة، الإنفلات منها يعني بالضرورة تدمير هذا الاقتصاد العربي وموارده، وشواهدنا كثيرة وظاهرة في بعض الشراكات والتحالفات الصناعية التي تجعل الاقتصاد العربي مذعناً ويزيد الأمر صعوبة، صعوبة اتفاق الدول العربية اقتصادياً اللهم إلا الحالة الفريدة لمجلس التعاون الخليجي، وهو في حد ذاته اتفاق يمكن أن تنخر في عظامه سوسة التفرق السياسي، ورهين أيضاً ببقاء من يقتنع بالفكرة على دست الحكم، ولنتذكر أحداث البحرين ودخول قوات درع الجزيرة وما صاحب ذلك من صمت عربي أو كسر صمت من أثنيات أخرى غير عربية في ذات الدول وما جاورها، لو أعادت الدول العربية النظر في قوتها الاقتصادية الراهنة والواعدة وعواملها المتجددة لتمكنوا من الهيمنة على اقتصاد الشرق الأوسط على الأقل، ولأصلحوا اقتصاد أفريقيا كلها والعالم الإسلامي قاطبة.. ومن أين، من الزكوات التي حُجر إخراجها من موضعها وسدت عليها طرق المصارف الشرعية، إن قصور نظر علمائنا الاقتصاديين والشرعيين قاد إلى تفاقم كارثة الصومال الإنسانية فالاقتصادية، فالسياسية فالاجتماعية، أما الكارثة العسكرية، فهي أصل البلاء وفيها يطول الحديث ويطول. أما الأوضاع السياسية فهي تعاني مرضاً عضالاً لم تفلح معه كل أنواع العقاقير في علاج السقم السياسي الذي تشتكي منه المنطقة العربية، فلا الأنظمة الشمولية لديها الغذاء والدواء والكساء مجتمعة لتنتشل الواقع السياسي إلى آفاق العالمية، ولا الثورات والهيئات الشعبية التي قامت استطاعت أن تقود على الأقل إلى توافق على واقع سياسي جديد تستشرف منه هذه الشعوب آفاق الحرية بكل مضامينها والتي رضعتها مصة واحدة وغير مشبعة عند الاستقلال، ثم كان الفطام الذي أدى إلى الكساح السياسي الذي لم يستقم معه عودنا السياسي ولا وعينا الفكري. بإمكان المنطقة العربية أن يسودها ما ساد المنطقة العربية وما ساد المنطقة الأوربية من توافق اقتصادي سياسي خاصة وأن البنية الاجتماعية واللغوية والثقافية متماسكة أو متشابهة أو متقاربة إن لم تكن شكلاً، فعلى الأقل تجمع لغة الضاد النقيضين، لعل هناك بريق في آخر النفق من التوافق في ظل الوعي السياسي الذي يمكن أن يوصف به الجيل الثاني من القادة العرب المتوقع صعودهم، ما لم يلتف حوله الأخطبوط الغربي ليعتصرهم أو أن يطلق عليهم الحبّار سمومه من خلال حبر الثقافة السياسية الجديدة التي تنتجها الآن مراكز الدراسات الإستراتيجية الغربية، لتهيمن على عقول القادة.