ü طغت التطورات الليبية المتسارعة وتداعيات سقوط نظام العقيد القذافي على كل ما سواها من أحداث، وإن كانت لا تقل عنها أهمية وخطراً- من وجهة النظر الإستراتيجية- على مجمل التوجهات المستقبلية للمنطقة العربية والشرق الأوسط على وجه العموم. من ذلك الحدث الذي تفجر على الحدود المصرية الإسرائيلية إثر الصدام الذي وقع بين بعض وحدات الجيش الإسرائيلي وبعض عناصر المقاومة الشعبية الفلسطينية (ألوية الناصر صلاح الدين) في غزة، بعد اتهام إسرائيل لتلك الألوية المقاومة بتنفيذ عمليات ضد بعض وحداتها في جنوبسيناء وملاحقتها واغتيال بعض قادة تلك الألوية، صدام وملاحقات شاركت فيها وحدات إسرائيلية برية وبحرية تجاوزت خلالها الحدود المصرية في المنطقة فقتلت وأصابت بعض العسكريين المصريين المرابطين هناك في ما يعرف بالمنطقة (ج)، حسب معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية واتفاقية كامب ديفيد الإطارية التي وقعها الرئيس الأسبق أنور السادات في أعقاب حرب اكتوبر1973. ü جاءت صدامات نهاية الأسبوع الماضي الإسرائيلية - الفلسطينية من جهة والإسرائيلية المصرية من جهة أخرى لتكشف هشاشة العملية السلمية التي أنفقت فيها الولاياتالمتحدة وإسرائيل وحلفاؤها العرب من الجهود السياسية والاستخبارية ومن المال والعمليات الترويضية بالإكراه والتحفيز الكثير. عملية استهدفت في الأساس مصر والجبهة المصرية، لأن من خططوا لها (إدارة كارتر ودبلوماسية هنري كيسنجر) كانوا يدركون جيداً أن مصر هي «بيضة القبان» في مجمل المعادلة الإستراتيجية التي تحكم الصراعات العربية الإسرائيلية بما في ذلك «القضية المركزية» أو المسألة الفلسطينية التي هي بالأساس قضية ذات أبعاد قومية تتأثر سلباً أو إيجاباً بمواقف الكيانات العربية المحيطة بإسرائيل. أو ما كان يعرف في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي ب(دول المواجهة) التي أكبرها وأهمها على الإطلاق هي مصر، ذات مصر التي بادرت إلى عملية سلام كامب ديفيد في أعقاب حرب أكتوبر، ما قاد إلى الخلل الإستراتيجي في معادلة الصراع أملاً في تثبيت حلم الأمن الإسرائيلي على حساب أمن الفلسطينيين والعرب، بل حقوقهم المشروعة. ü ولأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح، وبرغم عناصر الدعم المبذولة لإنفاذ اتفاقات وتفاهمات كامب ديفيد، والمتمثلة في عدة مليارات تدفعها الولاياتالمتحدة للنظام الحاكم في مصر في شكل معونات عسكرية واقتصادية، وبرغم محاولات النظام كله لأن تصبح كامب ديفيد والمعاهدة جزءاً من ثقافة الشعب المصري وتوجهاته السياسية، إلا أنها ووجهت منذ البداية بنفور ورفض شعبي ظاهر لكل أشكال التطبيع مع إسرائيل وظلت سفارة إسرائيل في القاهرة جزيرة معزولة بين أمواج الرفض الشعبي الظاهر، ما حولها في أحسن الأحوال إلى مركز للتجسس وجسر للعلاقات والمصالح الخاصة التي تربط جماعة النظام الحاكم وأزلامهم مع الدولة العبرية. وهو وضع ساهم في عزلة هذه الجماعة عن شعبها بعد أن تحول جل اهتمامها للتكسب من وراء الصفقات التي تتم في الظلام بعيداً عن المؤسسات كصفقات الغاز والبترول وغيرها من العمليات السرية والخدمات المشبوهة التي تعود على هؤلاء وحماتهم من أصحاب النفوذ بتدفقات المال الحرام (حسين سالم وحسني مبارك وأبناؤه ومعاونوه المقربون نموذجاً). ü كامب ديفيد ومتفرعاتها - السياسية والاقتصادية والثقافة كانت في حد ذاتها مُحفزاً للإفساد وفتح الباب واسعاً أمام تصاعد الفساد الذي شكل بدوره أهم مؤججات الثورة الشعبية (ثورة 25 يناير) التي أطاحت بالنظام، وبرغم أن الثورة والثوار لم يضعوا ضمن أولوياتهم أو أجنداتهم المعلنة «إسقاط كامب ديفيد» إلا أن سقوط نظام «السادات- مبارك» الذي أسس للاتفاقية ورعاها وتعهدها بالسقيا طوال تلك العقود، لابد أن يقود - بالتداعي إن لم يكن بالضرورة - إلى إعادة النظر في تلك الاتفاقية وما ترتب عليها من اختلالات، أهمها استقلال القرار المصري، الذي أصبح رهيناً بعد كامب ديفيد للرؤية والمصلحة الأمريكية- الإسرائيلية، بغض النظر عن المصلحة المصرية والمصالح والوشائج العربية المتداخلة والمتكاملة، كل ذلك وغيره جعل الاتفاقية ودوائر صناعة القرار العليا في النظام وأصحاب المصالح المرتبطين بهم في وادٍ والشعب في وادٍ آخر، بل أهم من ذلك فإن كل ذلك التبشير والوعود البراقة بالرفاهية والتقدم والتنمية التي سترافق الاتفاقية وتنجم عنها بعد أن يحمل السلام، وتوجه الموارد والطاقات البشرية والمادية إلى البناء قد ذهبت أدراج الرياح، بل أصبحت الاتفاقية ذاتها مدخلاً للإفقار وتباعد الشقة واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء الجدد. ü لكل هذا جاءت حادثة اغتيال الضباط والجنود المصريين واختراق الحدود المصرية من جانب إسرائيل لتزيد طين الاتفاقية المبتل أصلاً مع انتصار الثورة الشعبية وكسر حاجز الخوف وتعزيز مشاعر الكرامة الوطنية، لتزيد ذلك الطين بلة ولينتقل الحديث من مجرد المطالبة بالاعتذار أو التحقيق في الحادث إلى جدل حول العلاقات المصرية- الإسرائيلية، ومطالبة بسحب السفير المصري من تل أبيب وطرد السفير الإسرائيلي من القاهرة، أي إلى ما يشبه تجميد العلاقة بين البلدين إن لم يكن قطعها. ü ورغم كل عيوب الاتفاقية المصرية - الإسرائيلية وشذوذها عن قاعدة السلام العادل والشامل، إلا أنها وفرت وعياً بالتحديات التي تواجه مصر والمنطقة وكيفية التعامل معها بمنطق إستراتيجي سليم وتكتيك ذكي، فمعظم النخبة المصرية- بمختلف توجهاتها وقربها وبعدها من الاتفاقية - ترى الآن الوقت ليس ملائماً لرد مصري حاسم على ما جرى في الحدود، مع ضرورة إظهار الحزم، وادِّخار الموقف المتكامل في التعامل مع إسرائيل وقضية السلام جملةً إلى وقت لاحق تكون مصر قد تمكنت فيه من بناء قوتها الذاتية في كل المجالات لتبني من ثم على تلك القوة موقفاً يعيد لمصر وللأمة العربية كرامتها وحقوقها المهدرة، فأما الآن وخصوصاً في حالة الضعف التي تعقب عادة الثورات، فإن الموقف الصحيح هو إظهار العزم وإشعار العدو بأن مصر الجديدة ليست هي تلك التي كانت قبل 25 يناير، دون إفراط أو انجرار إلى صدام بدون استعداد، ما قد يقود إلى مغامرة مدمرة. ومع ذلك فلابد أن إسرائيل تعلم علم اليقين القوة الكامنة -وليس الفاعلة- لدى مصر، ولذلك حرصت على «إبداء الأسف» على غير العادة، وقامت بتشكيل لجنة تحقيق أبدت استعدادها لأن تكون مشتركة، كما بدا أنها لا تمانع من إعادة النظر في الاتفاقية خصوصاً في الترتيبات العسكرية وتواجد القوات المصرية في المناطق الثلاث (أ و ب و ج)، بحيث تصبح مصر قادرة على السيطرة على حدودها، وذلك مدخل أولي للسيادة المصرية الكاملة على سيناء.