تابعت الليلة الماضية ما جرى لسفارة العدو الإسرائيلي بالقاهرة، حولها أولاً بتحطيم الحواجز الأسمنتية الأمنية وداخلها عندما صعد المتظاهرون الى الطوابق العليا واقتحموا جزءًا من المقر الواقع في الطوابق الثلاثة العليا وبدأوا في نثر أوراق السفارة في الهواء وسط حالة من الهياج والصياح والتهليل والتكبير ممن هم أسفل المبنى. ذلك في الوقت الذي شهد ذات اليوم، نهاراً، تظاهرة ضمت الآلاف من أنصار ثورة 25 يناير فيما عرف ب«جمعة تصحيح المسار» رفعت مطالب مشروعة وضرورية للمجلس العسكري الأعلى تضمنت تحديد جدول زمني لتسليم الحكم الى سلطة مدنية منتخبة، ووقف إحالة المدنيين إلى القضاء العسكري، وإلغاء قانون تقسيم الدوائر الانتخابية، وإلغاء قانون تجريم الاعتصام، لكن هذا ليس موضوعنا اليوم. اقتحام السفارة الإسرائيلية بالطريقة التي تمّ بها الليلة الماضية هو عمل خاطيء بأي منظور يتّخذه المراقب. ليس لأن وجود سفارة إسرائيلية في قلب القاهرة - عاصمة العروبة وقلعة الاسلام العتيدة- عملاً مشروعاً أو مشرفاً، خصوصاً مع رفض الشعب المصري العظيم لمبدأ إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ورفضه الصارم والحازم للتطبيع في ظل العدوان المستمر من جانب دولة الكيان الصهيوني على شعب فلسطين واحتلالها للأراضي العربية، وفي ضوء الإحساس بالمهانة والغضب المكبوت في صدور المصريين على اتفاقات كامب ديفيد والمعاهدة المصرية الإسرائيلية التي أخرجت بلادهم -الأهم والأقوى- من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، ليس لكل ذلك. ولكن لأن هناك واقعاً مستجداً في مصر يمثل طريق الخلاص من كل أدران ومهانات التبعية التي فرضها «نظام السادات-مبارك» وحان وقت الخلاص منها مع انتصار الثورة الشعبية -ثورة 25 يناير- ومع النهوض الشعبي العام في المنطقة في هذا «الربيع العربي». جاء اقتحام السفارة المصرية، الذي يتراوح تقييمه بين خيارين لا ثالث لهما، إما «الفوضى» والافتقار للقيادة الواعية والحكيمة التي تتصدر الثورة وتصرف الأمور وتتحسب لكل خطوة قد تقود إلى الردة والانتكاس، أو «المؤامرة» التي تستهدف تصوير «الثورة» ومنجزاتها العظيمة بأنها مجرد «فورة» يتقدمها «شوية عيال» - بحسب تعبيرهم- فورة ليست جديرة بالاحترام ولابد من القضاء عليها وعودة البلاد إلى ما كانت عليه ولو بوجوه جديدة، تواصل نفس السياسات القديمة والنهج المعتاد، نهج التبعية والذل ولعب دور المحامي للمصالح الأجنبية والإسرائيلية وسياسات الفساد والنهب المؤسسي وإفقار الشعب ومصادرة حريته وكرامته. فوجود السفارة الإسرائيلية في قلب القاهرة خطأ، واتفاقات كامب ديفيد خطأ، ولكنهما ومع مرور نحو أربعين عاماً، أصبحت «أخطاء تاريخية» بل أكثر من ذلك اكتسبت «شرعية دولية» في عالم أصبحت فيه الشرعية الدولية ملكاً للأقوياء في زمن «القطب الأوحد» المتمثل في الولاياتالمتحدة وحلفائها الغربيين، ذوي القوة والشوكة المتحكمة في مصائر هذا العالم، والتي تمثل إسرائيل بالنسبة لهما مخلب القط والطفل المدلل الحافظ لتوازن القوة والحارس الأمين للمصالح الغربية. ومن هذا المنظور وبتدارس هذا الواقع -على مرارته ولؤمه- يجب النظر في كيفية التخلص من تبعات نظام «السادات- مبارك»، من خلال عمل مدروس وتدقيق في النتائج، وقبل ذلك استعداداً حقيقياً لمواجهة نتائج هذا الخلاص، وهو استعداد تدخل في حساباته القوة المادية - العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية- الذكية، كتلك التي شهدنا بعض فصولها في أعقاب أحداث الشهر الماضي التي راح ضحيتها عدد من شرطة الاحتياطي المركزي في المنطقة (ج) على الحدود المصرية الإسرائيلية، إثر الاشتباك بين دورية إسرائيلية وبعض المقاومين الفلسطينيين في جنوبسيناء، تلك الأحداث التي فجرت احتجاجات شعبية ضد السفارة الإسرائيلية وكان يكفي استمرارها «سلمياً» لانتزاع العديد من المكاسب لصالح مصر عبر التفاوض الدبلوماسي وضد إسرائيل وكامب ديفيد. نعم، نحن بين خيارين للنظر في حادثة اقتحام السفارة الإسرائيلية، فإذا ما أحسنّا الظن يمكن أن نقدر ما جرى على أنه اندفاع عشوائي فجّره الغضب المكتوم في صدور الشباب المصريين، غضب على إسرائيل وغضب على تبعات النظام المخلوع، لكنه غضب يفتقر الى القيادة الرشيدة والتبصر والتدبر الذي يجب أن لا يغيب عن أفعال الثورة وتكتيكاتها الخادمة للاستراتيجية والأهداف الكبرى والبعيدة، أما الخيار الثاني فهو عدم استبعاد المؤامرة من قوى أو عناصر ينتمي بعضها الى النظام القديم ولا تزال تحتل مواقع مؤثرة في أجهزة الدولة وينتمي بعضها الى قوى سياسية التحقت بالثورة وتريد أن ترث النظام القديم عبر بث الفوضى وخلق حالة من الصدام بين الثوار وبين السلطة الانتقالية -في المجلس العسكري والوزارة- وتصادر حرية الثوار في التظاهر والاعتصام واستمرار المطالبة بإنجاز أهداف الثورة. ويمكن في هذا المقارنة بين ما جرى أمس وما رفع من شعارات في ميدان التحرير، الذي غابت عنه جماعات الإسلام السياسي، وما جرى من اقتحام يفتقر إلى الرّوية والحكمة لسفارة إسرائيل، وما ترتب عليه من «تشويه مُتعمد» لصورة الثورة والثوار.