ü وأنا أطالع تصريحاً للدكتور بخاري الجعلي القيادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي المميز عن أشقائه الكثر بماركة «الأصل» تلبسني شعور عارم بأنني أتجول في سوق الخرطوم المركزي أو «الملَجة» كما كان يسميه السودانيون في أزمان سلفت، حيث يتوافد تجار القطاعي من أصحاب البقالات والكناتين والترابيز ليشتروا من الموردين و «تجار الوقافي» الفواكه والخضار وكل أنواع الحبوب والمنتجات الزراعية، وتسمع القوم هناك يتصايحون ويتحاججون وترتفع أصواتهم ويحتدون في وجوه بعضهم البعض بما يقارب «الخناقة»، وغالباً ما ينهون الحجة واللجاج بعبارة «يا زول ما تكتر كلامك.. بين البايْع والمشتري: افتح الله واستر الله» قبل أن ينصرف البايع أو المشتري إلى زبون آخر ويدخل في معركة أخرى ل«التتمين» أو المساومة. وكما زاد صديقنا الشريف صديق الهندي- وأنا أعرض عليه فكرة «الإضاءة»- فإن الأمر يزداد تعقيداً بسبب الكمية أو حجم المعروض، فهناك من يشتري بالقفة أو «الصفيحة» أو الكوم أو «الشوال»، فأحدهم «البايع» مثلاً يستكثر بينما المشتري يستقلل فيدخلان في مأزق ومحاججة بسبب التقدير وارتباك المعايير وما تستحقه الكمية المعروضة من ثمن. ü تصريح الدكتور الجعلي الذي طوَّف بنا في السوق المركزي أو «الملجة» نشرته أمس الأول (الاثنين) جريدة «الصحافة» الغراء، ملخصاً في الصفحة الأولى وموسعاً في الثالثة. نقلاً عن شبكة «الشروق» وجاء فيه: أكد القيادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي «الأصل» الدكتور بخاري عبد الله الجعلي عدم مشاركة حزبه في الحكومة المقبلة، «إلا»- لاحظ إلا هذه- إلا إذا تجاوب حزب المؤتمر الوطني الحاكم مع «شروط حزبه». وما هي هذه الشروط؟ هي المشاركة في الحكومة من رئاسة الجمهورية حتى معتمدي المحليات، حسب نص التصريح. وقال بخاري إن شروط المشاركة التي قدمها الاتحادي للمؤتمر الوطني هي أن تكون المشاركة في الحكومة «بحجم الحزب» الاتحادي بزعامة السيد محمد عثمان الميرغني. ü وكشف بخاري الجعلي رفض الاتحادي لمقترحات المؤتمر الوطني للمشاركة في الحكومة «بثلاث وزارات»، حيث اعتبرها لا تتناسب مع حجمه وأردف: شروط مذكرة الاتحادي للمشاركة وصفتها لجنة المؤتمر الوطني- التي تحاور الاتحادي- بأنّها «مدروسة». وقالت الصحافة- في متن الخبر- إنّها علمت بأن لجنة المؤتمر الوطني للتفاوض مع الحزب الاتحادي برئاسة بروفيسور إبراهيم أحمد عمر تتجه لتقديم «عرض جديد» للحزب يشمل «منحه» منصب «مساعد رئيس، وأربع وزارات اتحادية، ووزارات ومعتمدين في الولايات والمشاركة في مؤسسات وهيئات عامة وبعض المجالس المتخصصة». لكن السيد الجعلي، ربما بعد أن علم بما «علمته الصحافة» منه أو من غيره بأن «الوطني» سيقدم هذا «العرض الجديد» ذو القيمة المرتفعة التي قد تناسب «حجم حزبه» صرح كذلك للصحيفة بأنّه «يتمنى أن يشارك حزب الأمة القومي في الحكومة المقبلة لأن البلاد تواجه أصعب مرحلة في تاريخها الاقتصادي والأمني والاجتماعي وهي تحتاج لجمع الصف الوطني». ü بقراءة متأنية لهذا التصريح الذي أوردنا تفاصيل ما جاء فيه أعلاه، أفصح الدكتور الجعلي عن «طبيعة المفاوضات» التي يجريها حزبه- «ذو الحجم الكبير» و«الوزن الثقيل» كما تشي أقواله- مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم. والتي انحصر جلها في المحاصصة و «التتمين» على طريقة السوق المركزي أو «الملجة»: افتح الله واستر الله. عرض «الوطني» على الحزب ما رآه يناسب حجمه «ثلاث وزارات» فرأى الجعلي وحزبه أن ذلك قليل وأن حزبه يستاهل أكثر من ذلك، بحيث تكون المشاركة بمناصب تبدأ من القمة في هيئة الرئاسة ولا تنتهي إلا في الولايات ولتصل إلى قاعدة الهرم الحكومي في المعتمديات والمحليات والهيئات العامة والمجالس المتخصصة، يُريد مناصب و «كراسي» للاتحادي «الأصل» في كل هذه المواقع ليس لسبب آخر سوى أن «حجم حزبه» يستحق، ولكن السيّد الجعلي ينسى أن هناك من أصحاب «الأكشاك والترابيز» - اتحاديون وغير اتحاديين أيضاً- قد دخلوا السوق و«الملجة» قبلهم ويريدون الشراء، مما يساهم- بالضرورة- في قلة العرض وزيادة الطلب ويُضيِّق عليهم فرص «المحاصصة»، خصوصاً وأصحاب «الأكشاك والترابيز» من «الزبائن الدائمين» الذين لا يمكن الاستغناء عنهم لمجرد ظهور زبون جديد يعتقد أن «حجمه أكبر»، خصوصاً وأن هذا الزبون قد اشتهر بين جميع الزبائن، الذين يغشون السوق، بالتردد يدخل يده في جيبه ويخرجها دون أن يحسم أمره «ويتوكل على الله» فيستلم البضاعة ويدفع الثمن. ü تصريحات الجعلي لم تأت من قريب أو بعيد، لا تصريحاً ولا تلميحاً، على «أسس المشاركة» واقتصرت كما رأينا على «عدد المناصب» ومواقعها التي تناسب حجم حزبه. فهي لم تتحدث عن كيفية إدارة الحكم في الفترة المقبلة أو ما يسمونه ب«الجمهورية الثانية» وعن المدى الي يجب أن يصل إليه «التحول الديمقراطي» أو «الحريات العامة» أو الإصلاح السياسي أو إعادة هيكلة الحكومة بما يناسب الأزمة الاقتصادية التي تواجه البلاد بما يعني تقليل الصرف على جهاز الدولة وبالتالي اختصار عدد الوزارات والمناصب الحكومية ودمج الوزارات والمؤسسات ذات الاختصاصات المتشابهة أو المترادفة. وأكثر من ذلك لم يذكر شيئاً عن «اتّفاقية القاهرة» ومطلوباتها التي لم تر النور حتى اليوم، والتي قادها حزبه ووقع عليها مع حلفائه في «التجمع الوطني الديمقراطي» والتي كان من بين أشراطها إعادة بناء الدولة والخدمة المدنية والنظامية على أسس ديمقراطية وجبر الضرر وإعادة المفصولين، كما لم يقل شيئاً عن «فترة انتقالية» أو «حكومة قومية» أو انتخابات جديدة أو «مبكرة»، ونسي قولة زعيم حزبه الشهيرة إثر إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة. والتي تساءل فيها بذلك السؤال «الاستنكاري- الاتّهامي» عما إذا كان من استقبلوهُ في الشرق وكسلا قد «شال أصواتهم القاش»!! ü ما تذكره الدكتور الجعلي وتمناه- من قبيل المناشدة والتحفيز- هو أن «يشارك حزب الأمة القومي في الحكومة المقبلة» لسبب عاطفي هو الخوف على البلاد التي وصفها بأنها «تواجه أصعب مرحلة في تاريخها السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي» وأنها «تحتاج لجمع الصف» من دون أي أسس أو شروط ل«جمع الصف» هذا، تلك الأسس والشروط الضرورية والواجبة التي لا يتم واجب إقالة عثرة البلاد وخلاصها بدون تحققها. يرفع الجعلي أكفه بالتمني والرجاء بأن يهدي الله حزب الأمة للمشاركة وهو يعلم فحوى المفاوضات المطولة والممِّلة التي خاضها صنو حزبه «الأمة» مع الحزب الوطني حول «الحكومة القومية والأجندة الوطنية» المفضية للتغيير والتحول السلمي الديمقراطي، لكنه يتجاهل كل ذلك ويتحدث عن «جمع الصف»، حتى يجد مبرراً ومسوغاً لمشاركة حزبه «من دون شروط» وحتى يقول لجمهور الاتحاديين وشعب السودان لست وحدي «أنا ما براي.. يا هو الأمة معاي»!! ü لكن المفارقة الكبرى، تكمن في أنه حتى الحزب الحاكم- صاحب الجلد والراس- بدا أكثر اهتماماً بأن تكون المشاركة مبنية على حوار شامل يؤسس لعلاقة جديدة بين أطراف الساحة السياسية، وليس مجرد المحاصصة ولعبة «الكراسي والحجوم» التي يتحدث عنها الدكتور الجعلي، ففي ذات الصحيفة «الصحافة 10 أكتوبر» نطالع تصريحاً لرئيس القطاع السياسي بالمؤتمر الوطني د. قطبي المهدي في مؤتمر صحفي يقول فيه: يرى المؤتمر الوطني أن المرحلة المقبلة «مرحلة جديدة تتطلب برامج وأجندة جديدة، وأن القطاع السياسي سيناقش هذه الأجندة خلال مؤتمره غداً (الثلاثاء)» ويضيف: المؤتمر سيناقش ورقتين الأولى عن «صورة السودان الجديد» والأخرى «حول النظام الأساسي» وتشمل «هيكلة الدولة والنظام الديمقراطي وتطوير النظام الإداري والفيدرالي ونظام الحكم الرشيد وكفالة الحريات والشفافية وحقوق الإنسان» وذلك بهدف «الخروج من دائرة الأزمات والتخلف إلى بناء وطن متقدم وفتح حوار مع كافة القوى السياسية بالبلاد». وبغض النظر عن مدى مصداقية أو حتى قدرة الحزب الحاكم على مغادرة محطة الانفراد بالقرار وإقصاء الآخرين واستعداده لإنجاز هذه المطلوبات، لكن يبقى أنه يستشعر حاجة ملحة لفعل ذلك ويتحدث عنها علناً، بينما يدخل «الاتحادي» إلى سوق السياسة حاملاً عصاه وبمبدأ «افتح الله واستر الله»..