من السمات الأصيلة للشعب السوداني، طبيعته المسالمة، وفطرته الوديعة، وميله الغريزي للتسامح، ونفوره من العنف والغلظة والشدة، سواء في التعامل اليومي الاجتماعي، أو التعاطي السياسي، لهذا خلا تاريخنا السياسي- بوجه عام- من ظاهرة العنف والفجور في الخصومة، ولم يتلوث هذا التاريخ بحادثة اغتيال سياسي واحدة عبر كل الحقب السابقة، ولم تعرف أحزابنا السياسية أسلوب التصفيات الجسدية، كما أن الأجهزة الأمنية السودانية في مختلف العهود، لم تكن تلجأ إلى الاغتيال كأداة للتخلص من المعارضين والمناوئين للنظام، مثلما تفعل الأجهزة الأمنية في عالمنا العربي أو جوارنا الأفريقي. ورغم تعاطف بلادنا مع الحركات الثورية العربية والأفريقية، إلا أن الرأي العام السوداني درج على استهجان عمليات الاغتيال التي تمت داخل السودان، بدءاً من حادث السفارة السعودية عام 1973 الذي اغتال فيه أعضاء منظمة أيلول الأسود بعض الدبلوماسيين الغربيين، ومروراً بقتل جهاز مخابرات عربي للمعارض العراقي مهدي الحكيم في فندق هيلتون أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وانتهاء بحرب الاغتيالات بين الفصائل الأرتيرية، قبيل استقلال أرتيريا عام 1992. وعندما كان أحد السفراء الأمريكيين يتمشدق في مجالسه الخاصة في الخرطوم، بدعم السودان للإرهاب، ذكره الناس بأنه لو كان السودانيون كما يقول، لما أمكنه أن يمارس آمناً رياضة الركض اليومية في الأمسيات عبر شوارع الخرطوم، في وقت كانت بلاده من أعدى أعداء السودان، بل وتحدّوه أن يمارس هو أو غيره من الدبلوماسيين الغربيين الرياضة ذاتها في نفس الظروف، في عواصم أفريقية أو عربية مناؤية للولايات المتحدة. وبذات القدر سخر قراء كتاب (حرب إيما)، من تلميحات مؤلفة الكتاب البريطانية، واتهاماتها المبطنة للحكومة السودانية بتدبير مقتل السيدة «إيما»، زوجة الدكتور رياك مشار الإنجليزية، منتصف تسعينيات القرن الماضي، في حادث حركة بنيروبي العاصمة الكينية، بسبب تعاطف القتيلة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، ولو كان للحكومة السودانية مثل هذه النوايا لفضلت اختيار أهداف أكثر أهمية، من بين قادة التمرد المقيمين في نيروبي آنذاك. ولو تصفحنا تاريخ الحركة السياسية منذ نشأتها في منتصف أربعينيات القرن الماضي، ورغم حدة الخلافات داخلها، والصراع المحموم على السلطة، والتنافس الانتخابي الشديد، إلا أن الأمر لم يصل أبداً إلى مستوى التصفية أو القتل، ولم يتجاوز في أسوأ الأحوال الاشتباكات الفردية، أو المشادات إبان الحملة الانتخابية، أو التراشق بالألفاظ، والسخرية في الليالي السياسية أو على صفحات الجرائد الحزبية، حتى إذا ما وضعت الانتخابات أوزارها، عاد التصافي إلى سابق عهده، وانتهى كل شيء، وفي هذا السياق يذكر الناس دهشة بعض نواب الأقاليم في البرلمان الأول (1954- 1956)، عندما كانوا يرون زعيم المعارضة المحجوب، وزعيم الأغلبية مبارك زروق، وقد قضيا سحابة يومهما في تلاسن وسجال برلماني حاد، حتى إذا ما انتهت الجلسة استقلا سيارة واحدة وذهبا لتناول الغداء معاً. هذه الصورة الزاهية شابها حادثان ارتبطا بالعنف السياسي، وإن اختلفت الرؤى في تقييمهما، والحادثان هما صدام أول مارس 1954، الذي اتهم حزب الأمة بتدبيره، وهجوم أنصار حزب الشعب الديمقراطي المسلح على مراكز الاقتراع في انتخابات 1965. بالنسبة لحوادث أول مارس 1954، فقد ارتبطت بزيارة الرئيس المصري الأسبق اللواء محمد نجيب للسودان لشهود افتتاح أولى جلسات البرلمان السوداني، ولقد حشد حزب الأمة أنصاره من كافة أنحاء السودان للتعبير عن رفض السودانيين لفكرة الاتحاد مع مصر، وكاد اليوم يمضي بسلام، لولا قرار السلطات بتغيير خط سير موكب الرئيس لتفادي جموع الأنصار، الذين اندفعوا للقصر الجمهوري- للتظاهر السلمي حسب وجهة نظر قادة حزب الأمة- وأدى ذلك إلى صدام مؤسف ودموي بين الأنصار والشرطة، راح ضحيته العشرات من الجانبين، ولقد تصرف الرئيس أزهري بحكمة، إذ رفض إعلان الانهيار الدستوري، أو إنزال الجيش للشوارع بناء على نصيحة الحاكم العام البريطاني، وبذا أمكن تفادي الفتنة والحرب الأهلية. والحادث الآخر كان هجوم أفراد من حزب الشعب الديمقراطي على مراكز الاقتراع في الشمالية وحلفا الجديدة، لمنع إجراء الانتخابات، التي قررت قيادة الحزب مقاطعتها، بل ومقاومتها وسقط في هذا الصدام المحزن بعض أفراد الشرطة والكثير من المهاجمين المتحمسين، والطريف في الأمر أن رئيس الحزب الشيخ علي عبد الرحمن، عندما قدم للمحاكمة لاحقاً بتهمة التحريض على القتل استناداً على توجيهاته لأنصاره (بمقاومة الانتخابات بالقوة)، دافع عن نفسه مستشهداً بآي الذكر الحكيم «يا يحيى خذ الكتاب بقوة».. بأن القوة المشار إليها لا تعني العنف. وباستثناء هاتين الحادثتين، واللتين لقيا استهجاناً وإدانة جماعية من الرأي العام السوداني، خلا التنافس السياسي من ظاهرة العنف المؤسسي والمخطط له مسبقاً، وتم تصنيف اللجوء للقوة كتصرفات فردية ومعزولة، وفي هذا الصدد تقفز إلى الذهن ذكرى مذبحة بيت الضيافة (مجلس الصداقة العالمية الشعبية الحالي)، التي حدثت أثناء انقلاب الرائد هاشم العطا عام 1971، عندما صدرت أوامر للحراس بقتل المعتقلين من العسكريين الموالين للنميري، وبالفعل قتل أكثر من ثلاثين ضابطاً بطريقة بشعة ووحشية، ورغم اتهام الحزب الشيوعي الذي كان جناح منه مؤيداً لانقلاب هاشم العطا، إلا أن التحقيقات اللاحقة، وإفادات القلة التي نجت من المذبحة، أثبتت أن الأوامر صدرت من قائد الحرس الجمهوري الذي نفذ الانقلاب، ولم تكن قراراً من الحزب الشيوعي، ورغم ذلك تحمل الحزب الشيوعي وزر الحادث، ودفع ثمناً غالياً من جرائه. الذي دفعنا لتخصيص هذه الحلقة للحديث عن العنف في السياسة السودانية، ما تداولته الصحف عن إقدام الحركة الشعبية في جنوب كردفان على تصفية عناصر عديدة من المدنيين العُزل من قيادات المؤتمر الوطني قبل وأثناء التمرد الأخير، وما توفر من أدلة على مخطط مشابه للتصفية الجسدية في النيل الأزرق، لكن العناية الإلهية ويقظة القوات المسلحة حالت دون ذلك. هذا الأسلوب- أسلوب الاغتيالات بدم بارد- غريب على المجتمع السوداني، وهو منهج يتسم بالخسة والجبن والمكر السييء الذي يحيق دائماً بأهله، فالمعروف عن السوداني أنه لا يقبل الضيم، وأنه قد يلجأ للعنف إذا أُهينت كرامته، وهو قد يقتل دفاعاً عن النفس أو العرض، أو في خضم نزاع قبلي، لكنه لا ينزلق أبداً إلى درك القتل لاختلافات فكرية أو سياسية، وحتى في الظروف التي لجأ فريق من السودانيين إلى حمل السلاح ضد النظام الحاكم أو العصيان المسلح، كان ذلك يتم عبر مواجهات بين مقاتلين، لكنه لا يستهدف المدنيين ولا الأبرياء العُزّل. الذي يهمنا الآن، هو دق جرس الخطر والتنبيه إلى ظاهرة الاغتيالات السياسية أو العرقية، التي يتعين التنديد بها وحصارها ومعاقبة مرتكبيها، ولحسن الحظ أنها جرت في مناطق وظروف معينة ومحددة، ومن قبل قلة لا تمثل شعب السودان، ولا تعبر عن قيمه وأخلاقه ومثله الرفيعة. والله من وراء القصد..