يطربني جداً الفنان ذو الصوت الدافيء عوض الكريم عبد الله وهو يردد «بريدو شديد..» ويتساءل «في زولن.. ما بريد العيد؟!».. لا أظن أن هناك في العالم الإسلامي من لا يحب العيد.. وأقصد العيدين الخاصين بنا نحن «المسلمين».. عيد الفطر وعيد الأضحية وأجمل ما في العيد أنه يرد الإنسان مهما كانت سنه إلى طفولته.. فيجتر فرحته فرحة الطفل بالعيد.. ويحاول جاهداً أن يعكس هذا الشعور على أبنائه وأحفاده وأطفال الجيران والحي إذا أمكن. وتاريخي مع الأعياد يبدأ وأنا طالب بالمدرسة الأولية الشمالية ببربر.. «وهي بحساب اليوم الأربع سنوات الأولى لمرحلة الأساس الحالية»، قبل هذا التاريخ لا أذكر كثير شيء لفرحة العيد.. فقد توفي والدي.. وأنا ابن أربع أو خمس سنوات.. ولعل من أسوأ العادات التي كانت تمارس في الأعياد هي ما يعرف «بفراش البكا».. فالناس كانوا يحيلون يوم العيد إلى يوم تجديد للأحزان.. فيأخذون الأثاث بعيداً ويفرشون الأرض بالبروش أو «السجاجيد» إن أمكن.. ويعدون وجبة فطور هي عبارة عن كسرة بملاح «أم رقيقة».. أو عصيدة بملاح «التقلية».. بينما النساء في الداخل.. ينحنّ.. ويبكينّ المتوفي الذي لم يمر على وفاته عيد قبل هذا العيد.. ويبدأ الناس بعد أن يؤدوا صلاة العيد في مساجد بربر.. المرور على هذه البيوت مواسين مشاركين الحزن في صبيحة العيد بدلاً عن الفرحة.. ويتأخر في عيد الأضحية.. ذبح الأضاحي نسبة لهذا الطواف.. وكان أهلي يجددون هذا في كل عيد من الأعياد الأولى لوفاة والدي.. وهكذا ارتبط العيد عندي بهذه الظاهرة وأنا صغير رغم حرصهم على توفير كل مستلزمات العيد لي من جلابية جديدة «وعمة» وعراقي ولباس.. تتم خياطتها على يد أحد الخياطين البارعين.. الطيب عربي، بشير إمام، حسن النقر، أبشر عمر الجزلي، المبارك علي إمام وإبراهيم الغزالي. بعد عامين من وفاة والدي التحقنا بالمدرسة الأولية واخطلنا بالتلاميذ الآخرين.. وعرفنا معنى جديداً للعيد خارج حدود المنزل.. فالتلاميذ يتحدثون مثلاً عن ضرورة حلاقة الرأس في العيد.. وإلا فإن العيد سيتغوط على رأسنا- كما يقولون- ونصدق ذلك ونصر على أهلنا أن يحلقوا لنا رؤوسنا.. العم أحمد جابر.. صاحب أكبر محل في السوق وكان حلاق المفتش «أكبر رأس إداري في البلد».. والموظفون والشيخ أيوبيه عبد الماجد، ناظر البلد «رئيس الإدارة الأهلية» وكبار التجار بالبلد.. ومن الحلاقين الكبار العم محمد عبد الله نايم الذي يسمى «ميتو» أمدّ الله في عمره.. ومنهم العم مختار عبد السيد والعم عطية وآخرون يرحمهم الله.. وقلة في سوق الدكة.. مما يجعل محلاتهم ولا أقول صوالينهم.. مزدحمة بالكبار.. مما يصعب علينا نحن الصغار الحصول على فرصة للحلاقة وقد تضطرنا للسهر في الليالي الأخيرة السابقة للعيد.. وكانت الحلاقة للكبير بقرشين ونصف ب«القديم جداً».. وللصغير بقرش واحد.. وربما «تعريفة» وهي نصف القرش، للصغير من الأسر المحتاجة مما لا يشجع الحلاق على الحلاقة للصغير.. مثلما لا يتشجع سائق الحافلة اليوم للوقوف للطلاب الصغار الذين يصطلون بالشمس الحارقة لأنهم يدفعون نصف قيمة التذكرة.. أما اهتمامنا الثالث بعد الملابس وحلاقة الرأس.. فقد كان زيارة المقابر في وقت مبكر من صباح يوم العيد وإن كان الفصل شتاءً.. وأشفقنا من البرد وشدته.. طمأننا الأخ الأكبر محمود عبد الله نايم «عكاز» قائلاً: طبعاً الله يعلم بأن نساءً «عواجيز» يذهبن إلى المقابر.. ولذلك فهو سيرفع البرد يوم العيد.. فنأخذ بقوله.. فقد كان يكبرنا بعام أو عامين.. وكانت جدتنا الحزينة- حتى توفاها الله- على والدنا.. تحرص على أخذنا في الظلام الدامس إلى مقابر «أبكم».. حيث يرقد والدنا.. ومن بعده أمنا.. وهي تحمل «قفة» مملوءة بالكعك والتمر والحلوى لتقسمه على الأطفال الذين يأتون إلى المقابر حاملين أكياساً من قماش «لم تكن أكياس البلاستيك» معروفة آنذاك.. يجمعون فيها أكثر ما يمكن جمعه ويعودون به إلى أهلهم الذين لا تسمح ظروفهم المادية بتوفير ذلك.. وتجد عند القبور من ينحني على المقبور.. ومن الرجال من يدعو بالرحمة والغفران. -نواصل-